الدارس لتاريخ لبنان يجد أن هذا البلد الصغير قد تعود على الأزمات، اقتصادية كانت أم أمنية، يكون فيها للتدخل أو الأجندات الخارجية دور كبير، فضلا عن وجود طبقة سياسية هشة تساعد في ذلك، ولكن أزمة لبنان الحالية لم يشهد لها سابق خاصة مع وصول البلد الى افلاس سياسي واقتصادي ودخوله مرحلة مصيرية من تاريخ الدولة وقد أصدر البنك الدولي مؤخرا تقريرا قاتما عن الوضع الاقتصادي وأشار بأصابع الاتهام الى مخطط بونزي الذي قيد البلد ودفعه الى منحدر سحيق بلا مكابح.
لقد استنفد لبنان كل الفرص الممكنة للخروج من عنق الزجاجة ودخل في مرحلة شبيهة بتلاشي مؤسسات الدولة وكيانها: صحيح أن النظام السياسي لا يزال قائما ولكنه غير قادر تماما على فرض سلطته في البلاد وغير قادر على رسم خارطة طريق اقتصادية من شأنها أن تعيد الأمل، كما أنه فشل في العودة الى البعد الإقليمي بسبب تغول حزب الله الموالي لإيران وهذا الأمر الذي جعل دول الخليج تدير ظهرها له، وترى أنه لا جدوى من انقاذ دولة تدير فيها إيران المشهد من الخلف وتخطط من بعيد لإغراق الخليج بشحنات الكابتاجون من مطار بيروت أمام مرئ السلطة في لبنان التي يستحيل أن تفكر في مواجهة حزب الله لأنها غير قادرة على ذلك ولأن قوة حزب الله المدعوم من ايران أقوى من جيشها النظامي... لقد استنزفت الطبقة السياسية الحاكمة موارد البلد ورهنت مصيره الى غاية أن أصبح لبنان عاجزا عن فعل أي شيء ومتسولا لشحنة قمح أو وقود، ولم يعد القطاع العمومي قادرا على إعطاء أي شيء بل أصبح عبئا على الدولة التي لا تجد موردا للدعم بعد أن جفت البنوك من المال واعتذر الجميع على تقديم قروض جديدة للبنان لأنه لا يملك أصلا القدرة على السداد.
ربما يكون هذا التوصيف للمشهد في لبنان أقل سوداوية مما يحصل، وربما لا يمكن أن نكون أكثر دراية بعمق المشهد في لبنان أكثر من اللبنانيين الذين يعيشون فيه ويشهدون معاناة شبيهة بمعاناة سكان غزة، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا دواء، لكن ومن خلال تحليلنا لارتباطات لبنان الداخلية والخارجية، نجد أن إيران الأكثر قربا من المشهد اللبناني وقد ساهمت بشكل كبير في قيادته الى هذا الانهيار بعد ان فصلته من العمق العربي بحكم نفوذها فيه من خلال حزب الله الذي لم تعد تكتفي له بأن يمارس دور الحركة بل تريده أن يكون هو الدولة ويلغي الفراغ الحاصل، ولعل خرجات نصر الله الأخيرة وتعقيبه على ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل وطريقة كلامه عن نفط لبنان وحديثه، عن مسائل خارجية مرتبطة بملف ترسيم الحدود واعلانه الاستعداد للتصعيد تضعه في قالب رئيس دولة وليس أمنين عام حزب.
يدخل لبنان مرحلة مفصلية عنوانها تشكيل الحكومة والتحضير لما بعد ميشال عون، وربما سيصطدم ميقاتي بالفشل مجددا في إيجاد توليفة قادرة على الصمود امام الانهيار الاقتصادي، كما أن العديد من الدعوات التي تهدد بالفوضى في حال فشل تشكيل حكومة وفاق وطني توحي بأن شيئا ما يحاك في الخارج ويسعى الى الصدام في الشارع ورفع السلاح، والواضح أن أي حكومة ستأتي لن يمكنها الصمود أمام هذا الشلل الاقتصادي التام والضغط الشعبي المتزايد : مشاكل لبنان تحتاج حلولا اقتصادية قبل أن تكون سياسية ومع غياب أي حل يلوح في الأفق، فان احتمال الانفلات الأمني قد يكون القادم السيئ للبنان أما الأسوأ منه فهو استعداد ايران وذراعها اللبناني حزب الله الى الاشراف على لبنان بعد انهيار البلد ويمكنني التنبؤ بأن لبنان وفي ظل هذه الأوضاع السوداوية يتجه الى يكون مسرحا لمواجهة عسكرية إيرانية إسرائيلية ستدفع من خلالها ايران حزب الله للانتقام من إسرائيل في حال فشل الاتفاق النووي وستكون هذه الحرب طوق النجاة للطبقة السياسية الفاشلة التي ستحاول استعطاف الغرب بأن لبنان يحتاج المساعدة ليتخلص من مخالب ايران.