: آخر تحديث

أفغانستان بعد عام من السقوط الحر

44
39
39

بعد عام من توليها للسلطة في أفغانستان، أثبتت حركة طالبان بأنها غير كفوءة سياسياً، ويصعب التعامل معها كما تأمل البعض، على إعتبار أنها لن تكرر تجربتها الأولى الفاشلة، وستسعى للعمل على قبولها دولياً، لكن يبدو أن قادتها الذين لم يختبروا سوى حرب العصابات على مدى عقود لا يعرفون شيئاً عن قيادة الدولة. بالنتيجة الشعب الأفغاني هو المتضرر، لأن المقاطعة الدولية لنظام طالبان، والعقوبات المترتبة عليها، يدفع ثمنها المواطن العادي، لذا لن يتمكن كثير من الأفغان البقاء على قيد الحياة دون مساعدة الخارج ودعم أبناء الشتات. فرغم أن المجتمع الدولي كان متواجداً في أفغانستان لعقدين تقريباً، وإستُثمِر فيها مئات المليارات، لم يتم تأسيس بنى تحتية، ولم تصل الأموال الى من هُم بحاجة إليها، بسبب الفساد، وإعتماد إقتصاد حرب قصير المدى، لم تستفد منه سوى شركات الحراسة والصناعات العسكرية وأمراء الحروب، وأي مراقب للوضع بجدية، كان سيكتشف أن مجتمع مدني ودولة مؤسسات لن تظهر بهذه الطريقة، رغم أن ما يسمى ببناء الأمة في البلاد قد تم تسميته كهدف من قبل العديد من الساسة الغربيين.

أحد أهم أسباب فشل الحركة في إدارة الدولة، حتى الآن، رغم تعهدها ببدء صفحة جديدة مع الشعب الأفغاني والمجتمع الدولي، هو أن المتطرفين في الحركة كثر، وهُم لا يجعلون الأمر صعباً على الشركاء الدوليين المحتملين فحسب، بل وعلى مواطنيهم الأفغان، الذين من الواضح أن غالبيتهم العظمى ستبقى في البلاد، وتعيد التأقلم مع حكامها القدامى الجدد، فطالبان لم تعد خياراً بل قدر مكتوب، وسبيل الإفلات من قبضته محفوف بالمخاطر. تبدو هذه الحقيقة قاتمة، لكنها واقع حال، فمنذ إستيلاء طالبان على السلطة، تم أغلاق مدارس البنات الثانوية، والفصل بين الجنسين، وإغلاق الحدائق العامة، ومنع النساء من السفر بلا مرافق ذكر، وبات الصحفيون والعاملين في مجال حقوق الإنسان يخشون من بطش طالبان، لذا فر العديد منهم من البلاد. في الوقت نفسه، وصلت الخلافات داخل طالبان إلى ذروتها قبل فترة بعد مقتل زعيم القاعدة أيمن الظواهري مؤخراً في غارة جوية بطائرة مُسَيّرة تابعة لوكالة المخابرات الأمريكية وسط كابول، وقيل إن جناح حقاني المتشدد داخل الحركة هو الذي كان يستضيفه، ولم تكن بقية الفصائل على دراية بمكانه. هذه الصراعات الداخلية، بالإضافة الى تهديد داعش التي إغتالت مؤخراً زعيم بارز في الحركة، هي نموذج للأزمات التي تواجهها طالبان. فهل ستقصد حكومتها المجتمع الدولي للملمة شتاتها ومكافحة التهديد الجديد، أم ستتحرك وحدها؟ هذا يعتمد على طبيعة هذه الحكومة، التي يبدو أن الكفة بدأت تميل فيها الى القوى الراديكالية، على حساب القوى الأكثر إعتدالاً.

لماذا بعد عشرين عاماً إختفت قوات الناتو من أفغانستان بلمح البصر؟ حاولت حشود يائسة الفرار خارج البلاد، حتى أنهم تشبثوا بعجلات الطائرات بمشاهد درامية لن ينساها العالم. لا أحد يستطيع أن يفسر كيف وصل الأمر إلى هذه المرحلة. لم ينجح الوجود الدولي بنزع سلاح طالبان، التي لطالما كانت نشطة خلال فترة تواجد الناتو، وتشن هجمات تكثفت بعد ذلك، حتى جائت إتفاقية الدوحة التي مَهّدت لعودة طالبان الى الساحة. كانت هنالك آمال بمستقبل أفضل، لكن في النهاية إنتصر الظلام الذي أراد العالم إبعاده خلال عقدين. قيل دولياً أن البلاد لن يتم التنازل عنها، لكن بعد مرور عام، بات سكانها معزولين يواجهون المجهول، ويعانون الفقر والجوع ووضع اقتصادي كارثي. الوضع صعب بشكل خاص على النساء، اللواتي تفعل طالبان كل ما بوسعها لإستبعادهم من التعليم والحياة العامة. بكل الأحوال لم تكن الـ20 سنة الماضية سلبية، فالتواجد الدولي ترك خلفه شيئاً، وفتح نافذة أمل، يمكن رؤية بريقها في أعين النساء اللواتي يواجهن طالبان الآن بطريقة مختلفة. البذور زرعت، وستنبت وتؤتي ثمارها في الشباب، فالكثير من العواصم الأوروبية التي كانت منظماتها الإنسانية متواجدة في أفغانستان، إستقبلت آلاف الأفغان الذين عملوا معها، وتحاول التواصل مع من بقي منهم. هنالك أيضاً مشاريع تُواصل دعم النساء بمساعدة وسائل التواصل الحديثة. الفتيات اللوتي تم منعهن من الذهاب الى الجامعة مثلاً، تم تسجيل المئات منهن في الجامعات الأوروبية كي يتمكنوا من إكمال دراستهم بالتعليم عن بعد، لتمكينهم من المساهمة في تشكيل مستقبل بلادهم. المسألة الأساسية هي أن أفغانستان لا تستطيع إجراء التغيير بمفردها، وستظل بحاجة إلى مساعدة. يجب على العالم الآن أن يلتزم بإيجاد وسائل سياسية واقتصادية جديدة لأفغانستان جديدة. لا أحد يريد أن يغير هوية أفغانستان الثقافية والدينية، كما تروج طالبان، فهي ستبقى دولة إسلامية، لكن ليس ظلامية كما كانت قبل دخول الناتو، أو كما عادت اليوم أو كجارتها إيران، بل دولة تسير في درب الحداثة. إن إغلاق السفارات في البلاد هو بالطبع عقبة لتحقيق ذلك، لكن يجب الاستمرار بتقديم المساعدة للشباب، سواء من قبل المنظمات الدولية التي لا تزال في أفغانستان، أو من خلال رعاية الأفغان الذين غادروا البلاد، ليتمكنوا من العودة يوماً ويساهموا ببناء وطنهم. قد يكون هذا حلماً بعيداً، لكنه ليس مستحيلاً.

قبل أيام عرضت إحدى القنوات الألمانية تقريراً، بعد عام من مغادرة القوات الدولية أفغانستان وسقوط كابول، يلقي الفيلم نظرة على المجتمع الأفغاني، ويظهر أشخاصاً مصممون على البقاء رغم كل شيء، لكنه يتحدث أيضاً عن أولئك الذين أُجبروا على المغادرة، أو الذين ما زالوا عالقين، وعن طبيعة الجهود التي تبذلها الحكومة الألمانية والمنظمات الإنسانية لمساعدتهم. "جسر كابل الجوي" Kabul-Luftbrücke، هي مثلاً منظمة غير حكومية في برلين، أسّستها مجموعة صحفيين ونشطاء نجحوا في إجلاء بعض الناس المعرضين لخطر مميت من أفغانستان، كموظفين محليين أو إعلاميين أو نشطاء في حقوق الإنسان. خلال عام تم إحضار أكثر من 15 ألف مع أفراد أسرهم إلى ألمانيا. يُتَوقع أن يحاول الملايين الفرار من أفغانستان خلال السنوات القادمة، والسبب هو أن الناس بدأوا يفقدون الأمل والشعور بالانتماء، لذا شَدّد بعض الساسة الألمان على أهمية الحذر في التعامل مع ملف الكوادر المحلية التي كانت تعمل مع القوات الألمانية في أفغانستان، لأنه سيحدد نجاح أو فشل مهام الجيش الألماني المتواجد بمناطق النزاع مستقبلاً، وأوضحوا قائلين: "إذا أردنا من الناس أن يدعموا جنودنا، فعلينا أن نقدم لهم نموذج مشجع ووجهة نظر مقنعة". يوثق التقرير أيضاً، دولة ما فتِئَت تنحدر نحو الأسوء منذ استيلاء طالبان على السلطة، ويُظهر أشخاص ما زالوا يحاولون الحفاظ على القليل من حياتهم الطبيعية في محيط خطر. لا يستطيع الكثير من النساء والرجال والأطفال، المحتاجين إلى الحماية، الخروج من كابول إلى ألمانيا، إلا بفضل مساعدة منظمة "جسر كابول الجوي"، لأن إلتزام الحكومة الفيدرالية أدبي، لكنه ليس سحري، فهو لا يعمل بدون جواز سفر وتأشيرة ومَمَر آمن، وهذا الجزء بالضبط هو ما تساعد فيه المنظمة، التي ينتظر أن تكون نمودجاً للتعاون بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في التعامل مع الأزمات الإنسانية مستقبلاً.

أما الحديث عن تخلي الغرب وأمريكا عن الشعب الأفغاني، أو عن مؤامرة أمريكية تقف خلف ما حدث، فهو كلام فارغ وهلوسات، بدليل أن القوات الأمريكية هي الوحيدة التي بقيت تحمي مطار كابول الذي علِق فيه آلاف الأفغان والأجانب، وحاولت تأمين إجلائهم ، فيما بقية القوات الدولية غادرت بلمح البصر. فما فعله الجيش الأمريكي لم يفعله الجيش الأفغاني مع مواطنيه، وﻻ الجيش الجيش العراقي الذي كان في الموصل وترك أهلها لمصير بشع على يد مسوخ داعش، فقد عجز 300 ألف جندي وضابط أفغاني مدججين بأحدث الأسلحة الخفيفة والثقيلة ومدعومين بغطاء جوي عن مواجهة 30 ألف مقاتل من طالبان جاؤوهم بالماطورات! كما عجز قبلهم 35 ألف جندي وضابط عراقي مدججين بأحدث الأسلحة الخفيفة والثقيلة ومدعومين بغطاء جوي عن مواجهة 350 مقاتل من داعش جاؤوهم بسيارات البيك آب! أمريكا لم تَعِد ببناء دولة من الصفر، بل بدعم بناء دولة، إذا كانت النية موجودة لدى أهل البلد، كألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، وبالفعل ضخت ترليونات لتحقيق ذلك، كما فعلت في العراق، لكنها تبخرت بل وإستغلت لتدمير البلد! فلو كان الشعب الأفغاني رافضاً لطالبان وأراد أن يواجههم ويمنع دخولهم لمدنه والسيطرة عليها وعلى مجمل البلاد، وطلب مساعدة الأمريكان والألمان، لساعدوه! لكنه ووقف متفرجاً حينما دخلوها، كما لم يحرك ساكناً وبقي نائماً ورجله بالشمس حينما حكموه 20 عاماً قبل أن يقلعهم الأمريكان. ثم بعدها 20 سنة أمريكا وألمانيا وبريطانيا وكندا واستراليا واليابان في بلاده، مادين له يد المساعدة وداعميه مادياً ومعنوياً، لكنه لم يتمكن من تشكيل حكومة وجيش وشرطة بها حظ! وبمجرد أن هاجم طالبان مدنه فَرَطت كدولة وكشعب وكأجهزة أمنية، ثم يرمي بالمسؤولية على أمريكا والغرب ويقول أن لا أمان لهم! إلتقيت في ألمانيا بأفغان قدموا مع موجة اللاجئين في 2015، وحينما سألتهم عن الفرق بين الوضع في زمن طالبان وحينما غادروا أفغانستان، أجابوني: "والله الوضع بوقت طالبان كان أمان والشغل متوفر أكثر من الآن"!

بكل الأحوال لا بد من تشخيص أسباب ما حدث، فسقوط أفغانستان في قبضة طالبان لم يكن بفعل فاعل خارجي كما روج البعض ولا يزال، منطلقاً من هلوسات نظرية المؤامرة، بل كان سقوطاً حراً بفعل جاذبية داخلية، أولها مجتمع تغلبت فيه الإنتمائات والمصالح والروابط القبلية والعرقية والدينية على مصلحة الوطن والإنتماء له، وعلى رابط العيش المشترك بين أبناءه. فإستمرارية طالبان وإنتعاشها مجدداً خلال العشرين سنة الماضية، لم يتأتى من مجرد كونها حركة دينية، بل لكونها أيضاً حركة ذات غالبية عرقية بشتونية إلتف حولها البشتون الذين يمثلون غالبية الشعب الأفغاني، مما وفر لها حاضنة مجتمعية على أساس العرق، بالإضافة الى الدين، فلو كانت ذات غالبية طاجيك أو أوزبك أو هزارا لما إستمرت 20 سنة ولإنقرضت تدريجياً. كما كانت المصالح الشخصية لساسة وعسكر وموظفي النظام الجديد أفرض بالنسبة لهم من مصلحة الوطن، ولم يقدموا للناس نموذجاً يشجعهم ويدفعهم للدفاع عن النظام الجديد بمواجه طالبان، التي إستغلت هذه النقطة، بعد أن غرقوا وأغرقوا البلاد في فساد نخر الإستثمارات التي كان يفترض أن تؤدي الى تأسيس بنى تحتية يلمسها المواطن ويتحرك للدفاع عنها إذا شعر بأنها في خطر. وطبعاً أخيراً وليس آخراً الجانب الديني الذي تتبناه الحركة كواجهة براقة ما زالت تدغدغ مشاعر وتجذب الملايين من الأفغان الى صفها بمواجهة النظام الجديد الذي كان يتبنى نهجاً ليبرالياً مدنياً لا يزال غير مترسخ في نفسية الأفغان، ولم يرق للكثيرين منهم، كما حدث مع العراقيين، لذلك فشل المجتمع الدولي في تأسيس دول مدنية حقيقية في البلدين، فبات العراق فريسة لمليشيات مرتزقة تتحكم بشعبه ومقدراته بإسم الطائفة عن طريق إستغلال الوسائل الديمقراطية، وعادت أفغانستان الى قبضة طالبان بعد 20 سنة من إنتزاعها منها.


[email protected]


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في