: آخر تحديث

إذا عصف الحديد...

58
61
51
مواضيع ذات صلة

نامت ليلتها وفي عينيها توق إلى ذاك النجم البعيد...

كانت السماء صافية، وضوء القمر يلاعب أحلام الصغار، يغريهم بالنظر إليه، ومن خلفه النجوم، يدعوهم إلى رحلة خلف كل تلك الثريات المعلّقة، على حبال فضّته، وترانيم صمته، وعزف الأثير...

نامت ليلتها وهي تحضن لعبتها المفضّلة، وقد أشبعت نظرها بنور القمر، وروحها بمفاجآت الغد المنتظر... نامتْ وهي تنتظر أنْ يزورها الحلم الجميل، يرسم على مخدّتها جنائن من الورد والرياحين، والمروج الخضراء تركض فيها بمحاذاة نهرها الهادر، تجري خلف الفراشات وتتسابق والغزلان وتسابق الريح... وبعد أنْ تشعر بالتعب، تتكئ إلى جذع شجرة تسطرُ على جذعها آمالها، تخلّد اسمها الذي أصبح جزءًا من هذا السلام والجمال... تغفو قليلاً، تبتسم، تشعر بدغدغة تحثّها لتفتح عينيها على بيت جميل هو بيتها... بيت جدرانه ضحكات أمٍ وأب وأخوة، سقفه حنان العائلة والأمان، ورحابته قصص الجدّ والجدّة...

نامتْ بعد أنْ قبّلتْ أمها، وأبيها، وقالتْ لكلِّ من تحبّ: تصبح على خير!

نامتْ لتستيقظ على وقع دويٍّ... فالشجرة التي اتكأتْ إليها في المنام صرختْ تئن من نصل سكين، والبيت الذي فيه الضحكات دبّتْ به الفوضى، وصراخ الخوف، والغزال الذي كان يسابقها احترق في الهشيم، والفراشة قُطّعتْ أجنحتها، والنهر لفظَ ما فيه... نظرتْ حولها وقد تغيّر المرج الأخضر إلى دخان، ونور الفضّة إلى خمرٍ قانٍ، والنجوم التي كانتْ تصلها بالحبال ودّعتْها بحرقةِ صادٍ، فقد جُزَّتْ كلّ الحبال ولم يعد عند النجم إلاّ البكاء والدعاء...

اعتقدتْ أولاً أنها لا تزال في المنام... لكنَّ السماء فقدتْ لونها الباذنجانيّ الخلاّب، وأصبحتْ كحمم بركان، تعصف وتعصف وتحرق وتخنق كلّ الأصوات لا سيّما صوت الحريّة والأمن والسلام... كحمم بركان تسطو على الأحلام، تسرق ما كان منها وما سيكون، تصادر إرادتها، وقرارها، ومستقبلها، وتسترقُّ إنسانيتها...

فتحتْ عينيها بعد أنْ كانتْ قد اعتقدتْ أنها ستستيقظ على صباح خير جديد بعد ليلةٍ هانئة... لا تزال ضائعةً بين ما ساقها إليه القمر والنجوم وبين حمم البركان... لعلّ الأضواءَ ألعابٌ نارية، مفرقعات... كبيت الرعب في مدينة الملاهي، يصنعون لنا فيه أفخاخًا ويبتكرون فيه الشياطين لإخافتنا على سبيل الدعابة... فعادتْ لتغمض عينيها علّ القمر يقول لها أنّ الأمور بخير، وأنّ الغزال ينتظرها في ذاك المرج مع الفراشات والنهر الحييّ... أغمضتْ عينيها لكنَّها لم تجد من أحلامها إلاَّ أكداسًا من الرماد والحطام، وأطرافًا مقطّعة، وأيتامًا، وسلاسل، وسيوفَ ظلم، وبنادقَ استعباد، ونيرانًا ينفثها الشيطان...

وقفتْ على طلل ما بقي من أحلامها، من ضحكات والديها وأخوتها، من قصص جدّيها، حضنتْ لعبتها التي نجتْ بأعجوبة، لملمتْ ضفائر شعرها التي شوتْها الحمم، ألقتْ نظرة على السلاسل التي أوثقتْ قدميها، ونظرتْ في عينيّ الشيطان...

طفولتها لم تحرّك فيه ساكنًا، براءتها لم تغيّر في معادلاته شيئًا... فهو لا يفقه معنى الإنسانية، لا يفهم إلاّ لغة الأرقام...

نظرتْ في عينيه، فهذه هي المرة الأولى التي تقابله فيها، اعتقدتْ أنّه يسكن القصصَ والخيالات، وأنَّ التعوّذ منه كافٍ، لم تعتقد يومًا أنّها ستواجهه غير خائفة ولا هيّابة...

«اعتقدتُ أنّك من نسج الخيال، إذ لا يمكن أنْ يكون القبحُ والخيرُ جمال... لكنّك اليوم هنا، ترميني وحيدةً في ليل أبديٍّ من الظُّلم والظلام، وقدْ أبعدتَ عني كل من أحب، وحوّلتَ النور إلى رذاذ... أنتَ لستَ مجردَ فكرةٍ تعادي الضياء، أنت وحشٌ يتغذّى على مصالح باردة لا تثمر في بندر الإنسانية والأخلاق، تقطن كائنات قيل إنها من البشر، لكنّها لا تفقه من الـ«بشر» إلاّ الـ«شرّ»...

ربما تعتقد أنّك سحقتني وأحلامي وحريتي وقراري وسيادتي واستقلالي، وأعليتَ بروجًا هندسْتَها بالدم، لكنّي سأعود شرنقةً تَنشدُ الحياةَ وتُنشدُ الأمل، وأنسجُ حول بروجك شباكًا كالعنكبوت حتى يَنبتُ فيها الخير، ويعودها القمر...»

قالتْ، ثمَّ سكَنَتْ شرنقَتَها تُحضِّرُ لغدٍ تريدُه بلا حديد...


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي