هذه المقالة المختصرة مأخوذة من الفصل رقم (41) من مذكرات "لي كوان يو" رئيس وزراء سنغافورة الأسبق، التي صدرت في كتاب بعنوان "من العالم الثالث الى العالم الأول – قصة سنغافورة 1965-2000".
يقول "لي كوان يو"، عندما فكرت بمأزق "سوهارتو عام 1998م حين أجبر على الإسقالة والتنازل عن السلطة لصالح نائب الرئيس الذي اعتبره غير مؤهل بما يكفي لخلافته، شعرت بالسرور والامتنان لأنني استقلت من رئاسة الوزراء في نوفمبر 1990م. كنت ما أزال متحكما بالوضع السياسي وبالاقتصاد الناشط، واتمتع بالحيوية والقدرة الجسدية. لكن لو لم أتنح عن منصبي، لوجدت نفسي عالقا في شراك الأزمة المالية في منتصف العام 1998م، وقد انخفض ما لدي من ملكات وطاقات. بدلا من ذلك، عملت طيلة السنوات التسع الماضية على تعبيد الطريق وتذليل العقبات لخليفتي "غوه تشوك تونغ"، وفريقه من الوزراء الأكثر شبابا لتحمل المسؤولية كاملة في حكم سنغافورة.
بدأنا – انا وزملائي – في البحث عن اشخاص اصغر عمرا لخلافتنا منذ الستينات. لم نتمكن من العثور على مثل هؤلاء من بين الناشطين السياسيين الذي انضموا الى حزب العمل الشعبي، ولذلك بحثنا عن الأشخاص الذين يتمتعون بالقدرة والكفاءة والدينامية والموثوقية والطاقة والبواعث المحفزة أينما كانوا. في الانتخابات العامة التي جرت عام 1968م، رشحنا عددا من حملة الدكتوراه، وأصحاب المواهب اللامعة، وأساتذة الجامعات، والمهنيين من المحامين والأطباء، وحتى كبار الموظفين الإداريين.
القيادة اكثر من مجرد القدرة والتفوق، انها توليفة تجمع الشجاعة والبسالة، والعزم والحزم، والتصميم والالتزام، والشخصية الفذة، والقدرة الكاريزمية على جعل الجماهير مستعدة لاتباع نهج الزعيم. كما كنا بحاجة لأشخاص ناشطين يتمتعون بالحكم الحصيف ومهارات التواصل والتفاعل مع الناس.
من اجل وضع سنغافورة في أيد امينة ومؤهلة قبل ان اتقاعد، توجب علي ان أضم مجموعة من الأشخاص الذين يمكن لسنغافورة ان تجد فيهم قيادة فاعلة وخلاقة. ولو تركت الأمر للصدفة، اعتمادا على الناشطين الذين يأتون للانضمام الينا، لما نجحت في مسعاي على الاطلاق. شرعنا بتجنيد افضل الكفاءات وضمها للحكومة. اخضعنا المرشحين عن حزب العمل الشعبي الذين يحتمل ان يصبحوا وزراء لاختبارات نفسية مصممة لتحديد معالم شخصيتهم وذكائهم، وخلفياتهم الشخصية وقيمهم. لم تكن هذه الاختبارات شاملة كاملة، لكنها ساعدت في استبعاد غير المؤهلين، وكشفت مسبقا ردود الفعل الشخصية خلال المقابلة التي تستمر ساعتين.
بعد مؤتمر الحزب الذي عقد عام 1980م، قمت بترقية ستة وزراء دولة ليستلموا حقائب وزارية في الحكومة. الأمر الذي شجع المواهب والكفاءات الشابة للانضمام إلينا واختبارهم في مناصب وزراء دولة. كانوا بحاجة الى الحس المرهف، والمزاج السياسي لترسيخ التقارب مع زعماء القواعد الشعبية. وعملت على ضم الذين تمتعوا بهذه السمات والخصال الإضافية الى الحكومة بدون تردد.
من اجل كل شخص اخترناه، أجرينا اختبارات ومقابلات مع عشرة. معدل الاستنزاف كان مرتفعا لأننا لم نتمكن ابدا – برغم كافة الاختبارات النفسية – من تقدير وتخمين السمات الشخصية، والحالة المزاجية، والدوافع والبواعث بشكل دقيق. ولكي ننجح، كان على المرشح وزوجته وأسرته الاستعداد لخسارة الكثير من الوقت وكشف الأسرار الشخصية والعائلية. فخدمة الدائرة الانتخابية، وحضور المناسبات الرسمية، إضافة الى انخفاض الدخل مقارنة بالقطاع الخاص، افقدت جميعا المنصب السياسي جاذبيته. والأهم من كل ذلك وجوب ان يتمتع المرشح بتلك السمة الإضافية، ألا وهي القدرة على العمل مع الناس وإقناعهم بتأييد سياساته.
قررت ان تكون انتخابات عام 1988م آخر انتخابات اخوضها كرئيس للوزراء. وبعد ان فزت، طلبت من الوزراء الشباب ان يختاروا من بينهم رئيسا للوزراء يحظى بتأييدهم. ساعدت في اختيارهم كنواب في البرلمان، وعينتهم وزراء في الحكومة. أردت ان يحظى خليفتي بدعم وتأييد زملائه واترابه. رأيت كيف فشل الزعيم الصيني "دينغ شياو بينغ" في اختيار من عينهم، مثل "هو ياو بانغ" و"جاو زيانغ". تذكرت أيضا كيف اخفق "أنتوني إيدن" الذي اختاره "ونستون تشرشل". الوزراء الشباب اختاروا "غو تشوك تونغ".
بقيت في منصب رئيس الوزراء مدة واحد وثلاثين عاما. أما البقاء لفترة أخرى فلن يثبت شيئا سوى احتفاظي بما يكفي من القدرة والطاقة والأهلية والفاعلية. من ناحية أخرى، إن استطعت خلال السنوات التي سأتخلى فيها عن الحكم مساعدة خليفتي على إحكام قبضته على منصبه، فسيكون ذلك بمثابة آخر إسهام لي من اجل سنغافورة. لم اكن أعاني من عارض التراجع والانسحاب. واصلت تقديم افكاري ومساهماتي من خلال المناقشات في الاجتماعات الحكومية واللقاءات الثنائية مع رئيس الوزراء وغيره من الوزراء.
كان أسلوب "غوه تشوك تونغ" في العمل مع فريقه مختلفا عن أسلوبي. فهو يخطط بعناية لمختلف الخطوات التي يحتاجها لدفع الرأي العام بشكل بطيء ومتمهل نحو الهدف المرغوب. حقق أسلوبه النجاح، وفي انتخابات عام 1997م زاد حزب العمل الشعبي نسبته من الأصوات من 61% الى 65% في الدوائر الانتخابية المتنافسة الست والثلاثين. كما استعاد مقعدين من المقاعد الأربعة التي خسرناها عام 1991م. وغدا رئيس الوزراء "غوه" ووزراءه مسيطرين على السلطة كلية.
إن دعم الحرس القديم جعل ما حققناه ممكنا، لكن مسؤوليتنا المشتركة تقتضي ان نضمن استمرارية إدارة شؤون سنغافورة بواسطة رجال يتمتعون بالقدرة والكفاءة، والصدق والأمانة، والإخلاص والتفاني. لقد بلغ الفريق الأصلي الذروة وبدأ يفقد اندفاعه وحماسه. تطلب الأمر بعض الوقت لقبول الحرس القديم بالدماء الجديدة، وظل بعضهم يرفضون رؤية الشباب يتخطونهم في الترقيات، تفهمت مشاعرهم. كان التغيير صعبا من الناحية العاطفية والوجدانية، لكنه ضروري، وتوجب علي إحداثه بغض النظر عن مشاعري الذاتية.
سأله احد رؤساء كوريا الجنوبية عن السبب في بقاءه رئيسا للوزراء لفترة طويلة، فقال: "لأني كنت صادقا". وأنا أضيف: أنه كان صادقا وأمينا ونظيف القلب واليدين، لم يسطوا على المال العام، ولم يحاب الأقارب والأصدقاء.
من اقوال "لي كوان يو:
كان لدي خياران:
• إما أن أمارس السرقة وأدخل أسرتي في قائمة "فوربس" لأغنياء العالم وأترك شعبي في العراء، أو أن أخدم وطني وشعبي وأدخل بلدي في قائمة أفضل عشر دول اقتصادية في العالم. وأنا اخترت الخيار الثاني.
• أنا لم اقم بمعجزة في سنغافورة، انا فقط قمت بواجبي نحو وطني، فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلمين من طبقة بائسة الى أرقى طبقة في سنغافورة، فالمعلم هو من صنع المعجزة، هو من انتج جيلا متواضعا يحب العلم والأخلاق، بعد ان كان شعبا يبصق ويشتم بعضه في الشوارع.
آخر الكلام: توفي "لي كوان يو" في 23 مارس 2015م عن عمر ناهز 91 عاما، قضى منها 31 عاما في السلطة. اشتهر بصفته مؤسس الدولة وناقلها من العالم الثالث الى الأول خلال اقل من جيل. بكى عليه الشعب السنغافوري بحرقة. من المفارقات، ان شعوب تبكي على حكامها عندما يموتون ميتة طبيعية، وشعوب تفرح وتهلل عندما يموت حكامها او يغتالوا. (كل نفس بما كسبت رهينة).

