: آخر تحديث

رمضان في القرية

65
54
57
مواضيع ذات صلة

في رمضان كل عام ثمة عودة للذكريات، ومشاهد الطفولة في القرية، والفرحة  بقدوم الشهر الكريم، إنها مناسبة لتأكيد الهوية وإيقاظ الذاكرة التي لم تتأثر بوهج الحياة المشتعلة في أوربا، وظلت  مشاهد مسجد قريتنا الصغير في شهر رمضان وفانوسه الذي يضئ ساحته شهرا واحدا في السنة، هي الأكثر ثباتا والتصاقا بالذهن ، رغم مشاهدتي لرمضان ولياليه في مدن كثيرة عديدة.

الفانوس القديم الذي تضيئه لمبة الجاز المتدلي بسلك طويل في وسط صحن المسجد، كان هو شعاع الضوء الوحيد الذي ينير ساحة المسجد في ظلام الليل، لم تكن الكهرباء قد عرفت طريقها للقرية بعد،  فكنا نري ظلال المصلين وهي تنعكس علي الجدران أمامنا في الضوء الخافت، صورة كانت تبعث في النفس طمأنينة وسكون .

كان صاحب الفانوس هو المؤذن والإمام، وهو أيضا "المسحراتي " الذي يجوب طرقات القرية ليلا ليوقظ القرويين لتناول وجبة السحور قبل أن يدركهم الفجر، وكان ذات الفانوس هو رفيق دربه في حلكة ظلام القرية الدامس، أما الفانوس فكان يمثل للأطفال فرحة كبيرة، لأنه يظل طوال السنة في عهدة شيخ المسجد دون إضاءة انتظارا لشهر رمضان.

لم تكن هناك مكبرات صوت مزعجة، فكان الصمت سيد هدوء القرية في الليل، لا يؤنس وحشته إلا صوت الشيخ وهو يقرأ القرآن في المسجد، فكانت أجواء كلها تتناسب مع شهر رمضان، فلا يجد الناس طريقا غير المسجد للعبادة أو الراديو للترفيه، وكان مسلسل ألف ليلة وليلة من أكثر الأشياء الترفيهية التي ارتبطت بشهر رمضان، وكانت من أكثر المؤثرات التي تلهب خيال الطفولة في ذلك الوقت، كانت أجواء نقية لم يعد لها مكان في عالم التكنولوجيا الحديثة الآن، لقد أصبحنا نعيش في فوضي إلكترونية مزدحمة بالشاشات، والأضواء، والأصوات المزعجة، التي لا مهرب منها إلا بإيقاظ الذاكرة واستعادة تلك المشاهد الجميلة التي لم يعد لها مكان في عالم اليوم.

مررت ببلاد عديدة، ودخلت مساجد مختلفة في بلاد كثيرة، منها مساجد بالغة الأبهة والبهاء، لكن لم يبقى في ذاكرتي إلا مسجد قريتنا وفانوسه  القديم المتدلي بسلك، يعود دائما ليدق ذاكرة النسيان في كل أول رمضان جديد.

في المهجر عادة  يعود الإنسان في شهر رمضان لتأكيد هويته داخل منزله، في محيط مختلف لا يعرف عن هذا الشهر الكريم غير اسمه فقط، لذلك يبقي الاستماع إلى الشيخ محمد رفعت، وتواشيح الشيخ النقشبندي، وقبل صلاة الفجر إنشاد نصر الدين طوبار هي من أهم الأشياء التي تربط وجدان المغترب بثقافة الشهر الكريم .

تختلف الحياة في بلاد الهجرة، فمن غير الممكن خلق نفس الأجواء الرمضانية التي شاهدناها في مصر، فثقافة شهر مضان في القرية القديمة كانت امتدادا لثقافة القرويين الدينية ، فهم لم يعرفوا من الفنون إلا فن المديح النبوي، وفنون الإنشاد الديني، فكانوا يحيون الموالد وحفلات الذكر، التي كان يحييها احد الشيوخ المعروفين بحلاوة الصوت، وكان غالبا  يحكي قصة طرفاها دائما الشر والخير، وتنتهي دائما بانتصار الخير علي الشر، والفصة في الغالب مليئة برسائل الطاعة لله وعدم العصيان، والإيمان بالله، والرضاء بالقدر.

الكثيرون في المهجر يعتبرون أن رمضان  بمثابة شاحن لطاقة الهوية، وثقافة الوطن، التي كلما نضب وميضها أعاد لها هذا التراث الرمضاني القدرة والقوة على الاستمرار في هذا العالم المختلف بنفس الحماس السابق. وفي أوروبا  قلما يخلو بيت مصري مهاجر من اسطوانات مشاهير قراء القرآن الكريم.

إن  أصوات ألحان السماء هى الأخرى لها وقع آخر كبير في شهر رمضان، ولها تأثير كبير في محيط عالم الهجرة المتداخل ثقافياً وفنياً، ففي ألمانيا رغم سنوات الهجرة الطويلة، لا زال المصريون يهتزون من الأعماق عند سماع صوت الشيخ محمد رفعت، أو عبد الباسط عبد الصمد،  أما أنا فمازلت أرى أن الشيخ  مصطفي إسماعيل هو صاحب أعذب الأصوات وأنقاها، وأزعم أن موهبته ربانية ، فكانت أم كلثوم وعبد الوهاب يتعجبون عندما يستمعون إلى تلاوته،  ويتساءلون كيف يستطيع الشيخ ارتجال وتنظيم السلالم الموسيقية والمقامات في التجويد دون دراسه؟!

ومن المفارقات الغريبة أن الشيخ مصطفي إسماعيل نفسه غنى أغنية طلع البدر علينا، والثلاثية المقدسة لأم كلثوم،أما الشيخ رفعت فله تسجيلات بمصاحبة العود، وكان بارعا في العزف عليه،  وهو يغني قصيدة أم كلثوم وحقك انت المني والطلب. 

أتذكر في بداية التسعينات أن ذهبت إلى مولد سيدنا الحسين في القاهرة في شهر رمضان، وكان للصوفيين آنذاك حلقة هناك يؤدون فيها فنهم،  وأكثر ما لفت انتباهي وقتها وكان حدثا مثيرا هو أنني عثرت في خيمة صوفية على سيدة أمريكية متيمة بفن التواشيح الدينية ، ومن أجلها تركت كل شئ ورائها في أمريكا، وتفرغت للموالد وحلقات ذكر الصوفيين، وكان لها صوت جميل وهي تقوم بالإنشاد بمصاحبة الجيتار، وقالت لي  إنها تجد الراحة النفسية والروحية في أناشيد الصوفيين، وأتذكر أنني سألتها عما إذا كانت تفهم معاني الشعر الصوفي فأجابت بالنفي،ثم أردفت.. لكن الغناء الصوفي له تأثير ساحر علي النفس،فالموسيقى والكلام يخاطبان الروح وما تثيره فيهما من أحاسيس تصل بالمستمع إلى الشعور بالنشوة و السعادة الصادقة دون فهم المعاني والعبارات.   

لقد شاهدت في ألمانيا أتراكاً يبكون عندما يصل المنشد الصوفي بهم إلى حالة الطرب، وفي مصر كان البعض يغيب عن الوعي في حلقات الذكر.ورغم أن الفن الصوفي قد ظهر في القرن الثالث عشر للميلاد في عهد السلطان بهاء الدين الابن البكر لجلال الدين الرومي،إلا أنه مازال يحتل مكانة كبيرة في نفوس المصريين حتي الآن.

كلما باعدت السنين بيني وبين مسجد قريتنا،  يتغير الزمن ويتغير المكان، وتتعدد المشاهدات الرمضانية التي تضيف إلى سجل الذاكرة المزيد والمزيد من خبرة فنون الحياة، ففي ميونيخ شاهدت حفلة لفرقة سماع المصرية للإنشاد الصوفي والترانيم الكنائسية،  وهي تقدم روائع الإنشاد الصوفي مثل "بردة البوصيري" و"نهج البردة" برؤية معاصرة،إضافة إلى تقديم التواشيح والمقامات النادرة وأعمال التراث المختلفة.

  لازلت أسير ثقافة القرية المصرية القديمة في رمضان، ومازلت أتذكر منشدي  القرية الفقراء الذين كانوا يعتمدون علي قوة صوتهم وهم يحيون الحفلات الدينية في موالد الأولياء الصالحين، واكتشفت وقتها مدى تأثيرهم في حياة القرويين في مصر، فهم جهة الفن الوحيدة التي تنال إعجابهم، لآن فن المدح في أساسه هو فن مصري شعبي خالص،مازال يحظي بخصوصيته في الريف المصري خاصة منذ أن عرفته مصر مع دخول الأيوبيين،ويعتبر أجمل ما فيه هو اندماج موسيقى القرية وآلاتها مثل الربابة والناي مع أشعار الصوفيين وحلقات الذكر،وقد حفظ نفسه علي مر العصور لبعده التام عن أي مضامين سياسية أو نضالية أو قضايا وطنية خاصه،وظلت كلماته فقط تنحصر في الحث على التسامح والإخاء والتعاون بين البشر .

فياليت الأيام تعود بنا إلى الوراء مرة أخرى، ونصلي في مسجد القرية، في ضوء الفانوس، لكن للأسف لن يصبح هذا واقعا فقد تغيرت القرية، وهدم المسجد، ومات صاحب الفانوس، وانتهي الزمن الجميل، وهكذا هي الحياة تمضي ولا وتعود.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي