تابعت امس بقلق شديد ويدي على قلبي حادثة الزلزال وأعقبه التسونامي الذي وقع في اليابان وفي نفس المكان الكارثي " فوكوشيما " وحمداً لله انه مرّ بسلام ولم تقع الاّ حوادث صغيرة عابرة لاتكاد تذكر على العكس من تسونامي / 2011 المدمّر وكيف كان الشعب الياباني يتصرّف بحنكة ورباطة جأش أمام الأزمات وغضب الطبيعة .
ليس خافيا ان هذا الشعب كان من اكثر الشعوب عنفا ودموية وشراسة بحيث أقضّ مضجع الشعوب المجاورة القريبة منه وأشبعها غزوا وتدميرا ونهبا في تاريخه ؛ ولكنه انعطف نحو السلام والعلم واستعمال العقل والبناء والتحضّر في أرقى درجات النماء ومراتب الرقيّ بعد ان اتّعظ وتعلّم الدرس وغيّر مسار سلوكه بشكلٍ يثير الإعجاب حقا .
أذكر هذا الثناء لهذا الشعب الدائب في عقله وعظلهِ معا وفي خلَدي الفاجعة التي حلّت باليابان قبل ست سنوات وتحديدا في العام /2011 ووقوع تسونامي " سينداي " إذ لحق الخراب والدمار في مفاعل فوكوشيما النووي نتيجة الانفجارات التي حصلت في أهمّ وحداته التوليدية ؛ المفاعل النووي فوكوشيما الذي يعد واحدا من اهم المفاعلات النووية ذات الاغراض السلمية في العالم لانتاج الكهرباء وكيف تعاملوا مع ذلك الحدث الجلل بأناة وعزيمة وجرأة قلّ نظيرها عند بقية الشعوب حتى الناهضة منها وحريٌّ بنا ان نتعلم منهم ومن سلوكهم السويّ ونرى كيف كانوا يتعاملون مع بعضهم البعض أوقات المحن والأزماتالتي تعصف ببلدهم .
هذه بعض السلوكيات الانسانية التي رافقت حادثة التسونامي المدمّر الاول وعليكم انتم أعزّاءنا قرّاء ايلاف المقارنة بين ما نحن عليه وبين التعامل السليم الذي اتخذه هذا الشعب :
1) لم نلحظ ايّ مظهر من مظاهر الندب او النواح او اللطم وشقّ الصدور رغم شدة المحنة فكان الجميع في حالة هدوء تام وبرباطة جأش قلّ نظيرها ؛ وهذا ديدن الشعوب الحية التي تتحكم بأعصابها عند حدوث الازمات بحثا عن مخرج آمن وحلول سليمة وبأقلّ عدد من التضحيات .
2) طوابير هادئة منتظمة تنتظر دورها في الحصول على الماء وبقية الاحتياجات الغذائية ولا يوجد ايّ مظهر للتذمر او الملل او الانزعاج او التسابق على الاولوية وإرباك الطوابير رغم الزحام الهائل وشدة الحاجة .
3) الابنية والعمارات الشاهقة تأرجحت بفعل الزلازل وموجات المدّ البحري الهائلة العالية لكنها لم ولن تنهار وتقع على ساكنيها لانهاصُممت بمخففات الصدمات التي تم تركيبها في اسس الابنية حفاظا على مواطنيهم من الهلاك .
4) لم يدر في خلَد ايٍّ من مواطنيهم ان يستحوذ على المزيد من الاغذية والمياه لخزنها في بيته وحرمان بقية مواطنيهم من حصته المقررة فهؤلاء الناس اشتروا ما يحتاجونه فقط لقوت يومهم كي يستطيع الآخرون الحصول على احتياجاتهم الآنية الملحّة بالتساوي دون تفضيل احد على آخر مهما كان موقعه او مركزه الوظيفي او الديني او السياسي .
5) لم تحدث اية فوضى في محلات بيع الاغذية ولاعراك او زعيق اوتسلل للتسابق للاستحواذ على المواد الاساسية فالجميع بلا استثناء تفهّموا الوضع الاستثنائي واستوعبوا ظروفهم العصيبة .
6) هناك العديد من اليابانيين آثروا البقاء في المفاعل النووي فوكوشيما المدمّر وكانت مهامهم ضخّ ماء البحر في اجهزة المفاعل بغية تبريده رغم المخاطر الشديدة والموت المحدق بهم نتيجة احتمال التسرب الخطير جرّاء شدة الضرر في الوحدات التوليدية الكهربائية بسبب تأثير التسونامي ، هؤلاء آثروا ان يموتوا من اجل ان يعيش أهلوهم .
7) كل المحال التي تعنى بتلبية احتياجات الناس الاساسية كالطعام والشراب والكساء قد خفّضت اسعارها بما فيها المطاعم والأسواقطواعيةً لإمكان حصول اغلب الناس على احتياجاتهم الاساسية . وأخذ القويّ البنية منهم والقادر صحيا يهتم بالضعيف والمسنّ والاطفال الصغار والعاجزين عن الحركة .
8) عرف كل واحد مسؤولياته صغارا وكبارا ، وفعلوا ما يستطيعون فعله دون ان يطلبوا اجرا او ثوابا أو جزاءً من احد وكان لكل فرد دوره في التخفيف من وقع الكارثة من خلال تنظيم دورهم بأنفسهم دون تكليف من الدولة او اية جهة نافذة
9) تعاملَ الإعلام بحكمة وعقلانية ولم يكن هناك مذيعين يزبدون ويرعدون ويزعقون ويملأون شاشة التلفزيون صراخا وعويلا كما يحدث عندنا ، كل ماهنالك ظهرت تقارير هادئة تخفف من غلواء الحادثة وتعد الشعب بإزالة مخلفات الزلزال وإعادة المرافق والابنية الى سابق عهدها وترميمها وبنائها مثلما كانت في السابق بعزم وإصرار .
10) حينما انقطعت الكهرباء بفعل الزلزال وتوقف المفاعل عن تغذية المدن بالكهرباء والانارة أوقف المتسوقون شراء بضائعهم وأعادوها الى الرفوف فوراً وغادروا أماكن التبضّع بهدوء تام دون ان يجرؤ فرد واحد على السرقة والنهب .
11) بعد سويعات همّ العاملون في قطّاع الطاقة بربط الكهرباء من مولّدات ديزل احتياطية ضخمة أعدّت للطوارئ وعملوا على تغذية البيوت والشوارع وإنارتها ريثما يتمّ اصلاح مايمكن اصلاحه .
هكذا تعاملوا مع غضب الطبيعة بأناة وصبر وعمل جاد بنكران ذات قلّ نظيرها لتجاوز الازمة ؛ وهل يُعرف الانسان الصقيل الروح الاّ في ايامالشدة والمحن والحروب والكوارث .
من المؤسف اننا لانرى مثل هذه السمات والطبائع النبيلة في بلداننا العربية وحتى الاسلامية رغم المرارات الهائلة التي ذقناها وكأننا نسينا حضارتنا العريقة التي علّمت الكثير من الشعوب وأنهضتها من ركام التخلف يوم سطعت شمسنا ونشرت بهاءها في مناطق واسعة من الارض غير اننا لم نقف عند هذا الحدّ ورحنا نستزيد من الرقيّ الحضاري فنهلنا من الشعوب العريقة علمها وأدبها وفلسفتها ، أخذنا من الاغريق وغير الاغريق وترجمنا غالبية ماكتب الفلاسفة والمفكرون في شتى العلوم وتلاقحنا مع بقية الشعوب الناهضة فأخذنا منهم وأخذوا منا ، فما بالنا اليوم تجرفنا تيارات المنازعات وتشلّ عقولنا وأيادينا ولا تمسك الاّ السلاح ولا تتغنى الاّ بأناشيد الحرب وزعيقهاودويّها ونأبى ان نأخذ من سلوك الاسوياء المبتكرين من الشعوب الاخرى .
هكذا هي الحياة ؛ نهوض وتسامٍ وربما تلحقها كبوات وسقطات ، وعسى ان نتعلم من هؤلاء اليابانيين الآسيويين البناة حاضرا والغزاة ماضيا كي نتعلم منهم كيف أحرقوا ماضيهم الغارق بالعنف وتعلّقوا بحاضرهم الارقى ومستقبلهم الاكثر رقيّا حتما ؛ وأراهن اننا ستسمو ارواحنا ونفوسنا كما كنا من قبل لو نستهدي بهذا السلوك الذي يتّـسم به هذا الشعب الجبّار الوافر الابداع والتسامي الاخلاقي .
نتمنى ذلك مع يقيننا بان التمنّي هو رأسمال الواهنين .