أقر على حين غفلة من الزمن قانون حظر واستيراد وتصنيع وبيع الخمور في العراق الذي طرحه القاضي المثير للجدل محمود الحسن عن دولة القانون في البرلمان العراقي من دون طرحه على الجهات الدينية ومنظمات المجتمع المدني والمراكز البحثية والرأي العام لمعرفة دوافع وحيثيات وتداعيات هذا القانون من كل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فقد مر القانون علي قاعدة المادة الثانية بأن الدين الإسلامي هو مصدر اساس للتشريع (أي ليس المصدر الوحيد للتشريع)، والفقرة (أ) التي تنص على أن لايسن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام. المعترضون على القانون يستندون إلى المادة (ب) والتي تنص على أن لايسن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية ومواد أخرى تتعلق بالحريات المدنية وحرية المعتقد.
في الحقيقة آن العراق ليس البلد الوحيد الذي تتعارض فيه بعض المواد الدستورية في محاولة للتوفيق، آو بالأحرى التلفيق، بين مواد متناقضة من اجل دمج ماهو شرعي بما هو مدني وماهو ديني بماهو علماني وماهو أرضي بماهو سماوي، فكثير من الدساتير الحافلة بهذا التناقض الغريب العجيب الذي أعاق ومازال يعيق عملية سن القوانين. وعودة على قانون حظر الخمور والدستور العراقي، فهناك نقاط لابد من طرحها وفهمها بشكل اقرب. أولها رفع الغموض عن المواد المتعارضه وثانيها وهو برأي ماهو اخطر وهو كيف يصور ويرسم الدستور العراقي، من جهة، شكل الدولة وطبيعة المجتمع، ومن جهة أخرى كيف يتخيل ويتصور القائمون على تطبيق وتشريع القوانين من كتل سياسية ومؤسسات مرتبطة به شكل الدولة وماذا يكمن في اذهانهم عن ماهية المجتمع العراقي وطبيعته.
ربما يكون مفهوما أن لايسن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية واقل غموضا مع ما يتضمن من اشكاليات كون مبادئ الديمقراطية معروفة ومكتوبة وموضحة في الكثير من دساتير العالم، لكن الأكثر غموضا هو عدم سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الإسلام. هنا، لايمكن فهم هذه المادة الغامضة، فمن جهة، فلاهي مبادئ الدين الاسلامي حيث ينسحب الأمر على العقيدة والقواعد الأخلاقية الاساسية في الدين الإسلامي، وليس احكامه، كالمساوة وعدم التمييز والتراحم والتكافل والدفاع عن النفس وغيرها مما لايتعارض مع مبادئ الديمقراطية، ومن جهة اخرى، ليست هي احكام الشريعة الإسلامية حيث حاول المشرع تجنب الوقوع في مطب عدم وجود شريعة إسلامية واحدة متفق عليها، فالشريعة تتضمن تفسير وتبيات وتأويل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ويليها العقل والأجماع والأستحسان والرأي وغيرها من المصطلحات الفقهية التي تتعدد وتتنوع بكثرة المدارس الفقهية والاجتهادات الفرعية داخل المذهب الواحد فضلا عما هو بين المذاهب المتعددة. إذن، التناقض موجود في داخل الفقرة (أ) نفسها قبل أن تتناقض مع الفقرة (ب) التي هي عدم سن قانون يتعارض مع مبتدئ الديمقراطية.
حتى الآن يمكن حل هذه الاشكالات بين المشرعين والفقهاء الدينيين والقانونيين، لكن المشكلة الأكبر تكمن بالموضوع الثاني وهو التناقض بين ماورد في النصوص الدستورية وما يكمن في اذهان الكثيرين عن تصوراتهم لشكل الدولة والمجتمع. فشكل الدولة بالدستور واضح وهو أن دين الدولة هو الإسلام وهنا الإسلام كهوية وليس كمصدر اساسي وحيد للتشريع، والإسلام كهوية يعني أن القسم الاكبر من المجتمع هو مجتمع مسلم وليس مجتمع إسلامي حيث الفرق واضح بين الدين الإسلامي كثقافة والدين الإسلامي كايدلوجية. فالثقافة الإسلامية لاتعني بالضرورة أن كل من يحملها مسلم بالعقيدة، وإن كان غالبية من يحملونها من المسلمين، فهي تتعلق بالسلوك اليومي للفرد المسلم من مأكل ومشرب وعادات وتقاليد إسلامية مكفولة بنص الدستور ضمن الحريات المدنية وحرية المعتقد، فليس بها اجبار في الفعل والترك. فلكل مسلم الحق في ممارسة شعائره حسب مايريد ويعتقد دون الحاق الضرر بالآخرين، فهي من الحقوق والحريات المكفولة بالدستور كما في مصر وتونس والجزائر وتركيا والكثير من الدول بمجتمعاتها المسلمة. أما المجتمع الإسلامي فهو يحتم تبني الدين الإسلامي باحكامه وشريعته كمرجعية اساسية ووحيدة تحكم المجتمع الإسلامي والدولة حيث تحكمها ايدلوجية دينية محددة كما في الدولة الإسلامية الأيرانية والمملكة العربية السعودية. هذا ما نص عليه الدستور العراقي في مواد مختلفة. لكن المشكلة تكمن في اذهان السياسيين من احزاب مرجعيتها دينية سنية كانت أم شيعية.
مايكمن في اذهان هؤلاء ليس العراق التعددي والمتنوع في عاداته وتقاليده المتلون في هوياته واعراقه، حتى بين المسلمين انفسهم، ففيهم المتدين والعلماني وفيهم من هويته الاجتماعيه مسلمة وهو ملحد في سلوكه وفي اعتقاده. ففي ذهن السياسي الشيعي المسلم ان العراق ذي الأغلبية الشيعية يجب أن يكون بهوية إسلامية عربية شيعية، وفي ذهن السياسي الإسلامي السني أن العراق في جذوره التاريخية عربي سني الهوية، أما الاكراد فوضعهم خاص حتى في تشريع هذا القانون الذي أستثنى كردستنان بطريقة غريبة وكأنها تقول أن العراق مجتمع إسلامي بشكله السياسي وإن الكرد لهم هويتهم السياسية القومية، فالتقسيم سياسي قبل آن يكون أي شيىء آخر. من جهة أخرى يعتقد هؤلاء بأن وظيفة الدولة هي أن تكون حارس على أخلاق الناس والمتحدثة بالنيابة عنهم، فالسياسي الشيعي يتحدث باسم كل شيعة العراق وكأن هناك هوية شيعية واحدة ومتماسكة وأن السنة يتحدثون باسم كل السنة بنفس الطريقة. لقد نسوا أن في الديمقراطية أن الدولة ليس لها علاقة بأخلاق الناس فهي حارس فقط على مصالحهم ولاتتدخل بشؤونهم الشخصية.
السؤال الأخطر هو أين يتجه العراق على أيدي هؤلاء؟ هل سيبني هولاء السياسيون، ليس الدولة فحسب، بل المجتمع على شاكلتهم؟ ماذا بعد حظر الخمر بقانون وهل من نفس المبدأ سيفرض الحجاب على النساء وتفرض الصلاة على كل الناس في أوقاتها المحددة حسب الشريعة. كيف سيكون شكل المجتمع والدولة تجاه المجتمع الدولي الذي تحكمه اتفاقيات وقع عليها العراق كاتفاقيات الاعلان العالمي لحقوق الانسان واتفاقية سيدوا واتفاقيات تتعلق بحقوق الاطفال والاقليات والمعاقين وغيرها. لقد تنكر من اوصلته الديمقراطية لمبادئها كما تنكر اليوم لحقوق الأفراد المدنية الذين اوصلوه لمجلس النواب، وسيتنكر غدا حتى لمبادئ الدين الذي يدافع عنه عندما تتعارض مصالحه مع مبادئ هذا الدين فيما يتعلق بسرقة المال العام والفساد وغسيل الأموال وغيرها من الممارسات الاجرامية بحق هذا الشعب.
[email protected]