تناولت القومية كفكرة، وبنسختها العربية، في مقالات عدة سابقة، وكان موقفي في الغالب نقدياً في التفاصيل لا في الجوهر، إذ لم أسلك مسلك الدفاع عن القومية العربية كما يفعل أنصارها، كما أنني عادة لا أسلك مسلك الهجوم عليها كما يفعل معارضوها، والذين وقف بعضهم موقف العداء التام منها. فهي عندي ليست ضرورة لازمة ينبغي العمل لأجلها، ولا شراً مطلقاً ينبغي تجنبه، بل ما زلت أراها أمراً يحمل الجواز والاحتمال، ومشروعاً سياسياً ربما يحتاج نجاحه لظروف أكثر اختلافاً عن ظروف اليوم، ولوعي سياسي أكثر حداثة من الوعي العربي الحالي. ولكن رغم ذلك لا أجزم بتحقق ما يتطلع إليه القوميون العرب حتى لو تغيّر الظرف التاريخي وأصبح الوعي السياسي العربي أكثر نضجاً وحداثة.
ولا أرغب كثيراً في استعادة الحديث عن القومية العربية اليوم، خاصة في ظل المشكلات الأكثر واقعية التي نعيشها حالياً كدول عربية، وفي ظل الحاجة الأكثر إلحاحاً ولو لقدر يسير من الحلول. غير أنه وفي سياق التفكير في هذه المشكلات والحلول ذاتها، تبادلت الحوار في الأسبوع الفائت مع كاتب وأكاديمي عربي مختص بالسياسة، وكنت أظن أنها فرصة لأسمع ما هو جديد ومفيد، إما من جهة زيادة المعرفة، أو من جهة إصلاح المزاج الذي يغلب التشاؤم منذ قرابة عام، لكن ما خيّب ظني أن صاحبنا الكاتب قد اختزل الحديث عن مشكلاتنا جميعها، وعن التعقيد الهائل الذي يتخلل مفاصلها، بما يعتقد أنه المشكلة والحل معاً، إذ برأيه أن سبب كل ما يواجهه العرب، هو عدم اتحادهم، ولذلك فالحل عنده هو في تحقيق هذا الاتحاد.
ورغم أنني أعتقد أن مجرد صدور هذا الرأي عنه هو بداية لا تبشر بأنه سيقول ما هو مفيد بعدها، فقد رغبت أن أسمع منه المزيد، لا لأعرف أكثر عن رأيه، بل لأعرف لماذا حقاً يعتقد بهذا الرأي؟ وما سبب نظرته التبسيطية الساذجة هذه في حين يُفترض لمثله، وهو الأكاديمي وكاتب الرأي، أن يكون ذا نظرة أكثر عقلانية وواقعية؟
ورغم وضوح كلامه افترضت بالمقابل أنه ربما يقصد بالاتحاد أن يتعاون العرب فيما بينهم كدول وشعوب وحكومات على حل مشكلاتهم وحفظ مصالحهم وتقريب مواقفهم، وسألته إن كان يعني ذلك، لكنه عاد فأكد لي أنه يقصد الاتحاد السياسي وقيام دولة عربية واحدة! في الحقيقة لا أستطيع ان أفسر كيف أنه ما زال كثير من العرب، ليس الجماهير فقط بل والنخب أيضاً، يرون في الوحدة العربية؛ كطريق عملي، وفي فكرة القومية؛ كأيديولوجيا، حلاً يجب العمل عليه كي ننعم بالاستقرار والقوة والتقدم، وغيرها من الأهداف والأمنيات التي تسعى الأمم إلى تحقيقها عادة.
لا تفسير لدي لهذا الأمر إلا أنه حصيلة وعي عاطفي يوتوبي تصنعه الرغبات ولا يستند إلى المنطق أو العقلانية ولا إلى التفكير المنهجي والمعطيات الموضوعية. هذه زبدة ما أريد أن أقوله في ما بقي، ولن أعتمد الأسلوب الجدلي الذي كنت أستخدمه سابقاً في الحديث عن هذا الموضوع، بل سأعرض ما أظنه حقائق موضوعية ومبسطة، لتكون في مجملها وجهة نظر آمل أن تكون مقدمة لكتابات أوسع حول أزمة "القومية" في فكر العرب السياسي وسياستهم العملية.
أولاً... نشأت القومية كنظرية سياسية وبالمعنى الذي نتداوله اليوم، في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، ومهما حاول العرب تأصيلها في تاريخهم الثقافي والبحث عن جذورها في تراثهم فستبقى فكرة غربية استوردوها كمفهوم ونظرية، مثلها في ذلك مثل آلاف المستوردات الفكرية. هذا برأيي يلغي سمة اليقين المطلق التي حاول القوميون العرب إسباغها على مشروعهم القومي باعتباره قدر تاريخي لا بد من تحققه ولو طال عليهم العهد.
ثانياً... اعتنى الغربيون، المالكون الأصليون لفكرة القومية، بنظريات تفسيرها من نواح عدة (اجتماعية واقتصادية وسياسية) بغية تشريع إمكان تحققها الفعلي في مفهوم الدولة/ الأمة، وكان القاسم المشترك الأعظم بين جميع النظريات والاتجاهات أن جوهر فكرة القومية يستند إلى التجديد الاجتماعي الذي حملته روح الحداثة، وكان من أهم مظاهره التحول من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الحديثة. مقابل هذه الرؤى المستقبلية التي تضمنتها المشاريع القومية الغربية، عززت القومية العربية، ومن حيث لا تدري، نزوع الحنين إلى التراث واستعادة الماضي بدل الولوج إلى المعاصرة والمستقبل.
ثالثاً... كان من أهم عوامل تماسك فكرة القومية لدى كثير من الأمم، ومن ثم نجاحها كنظرية لتأسيس الدول، وضوح معاييرها ودقة التحديد فيها، سواء من جهة العرق أو الحدود الجغرافية أو اللغة. أما فكرة القومية العربية بالمقابل، فعانت منذ ولادتها وإلى اليوم من ضبابية انطباق معاييرها على الواقع، وافتقرت إلى اتفاق أنصارها على من هو العربي، وإلى أي تاريخ يعود، وما هي حدوده الجغرافية. والأمر ذاته ينطبق على اللغة العربية، وهل قربها من لغات الأقوام الأخرى المجاورين للعرب يدل على أن الجميع يتحدثون لغة واحدة في الأصل؟ ثم ما قيمة الأصل التاريخي الواحد لهذه اللغات إذا كان التباين بينها اليوم كبيراً؟
رابعاً.. وُلدت النظريات القومية الأوروبية من رحم حراك فكري وحوار فلسفي عقلاني، تراكمت بنتيجته وعبر عدة قرون، منظومة واضحة من المفاهيم التي تبين معنى التقدم والنظام السياسي والدولة والمجتمع. أما عربياً فكما تم استيراد فكرة القومية كذلك استوردت معها المفاهيم الأخرى التي لم تكن بالضرورة مناسبة لواقع المجتمعات العربية وما تعانيه من مشكلات في ظل الجمود الفكري والتخلف الحضاري الذي كان ضارباً بأطنابه على العرب قرابة خمسة قرون، لذلك ما زال الوعي العربي يعاني اضطراباً واضحاً في مجمل تصوره لمفاهيم الدولة والحرية والمواطنة والسلطة.. إلخ.
خامساً.. كان من أهم أسباب نجاح المشاريع القومية الغربية أنها مثلت عامل اتحاد لأفراد المجتمع ومكوناته عبر ربطهم بهوية وطنية جامعة ومُتفق عليها، أما فكرة المشروع القومي العربي فأدت ومنذ ولادتها إلى انقسام حاد وراديكالي بين التأييد المطلق والمعارضة المطلقة لهذا المشروع، وما زال هذا الانقسام يعزز حالة الفرقة والخلاف بين الكيانات السياسية العربية ذاتها، فكانت النتائج على العكس تماماً مما تتطلع إليه فكرة القومية وتسعى لتحقيقه.
سادساً.. رغم الدور البارز للنخب الفكرية الغربية في صياغة فكرة القومية ووضع النظريات حولها، إلا أن منشأها لم يكن نتاج فكرهم السياسي المجرد أو تأملاتهم النظرية المنقطعة عن الواقع، إذ لقد وُلدت القومية في سياق الظروف الموضوعية التي آذنت بانتقال الأمم الأوروبية من النظام الإقطاعي إلى النظام البرجوازي في ظل الثورة الصناعية والنمو الاقتصادي وتطور مفهوم السوق، لتدفع هذه العوامل الثلاثة باتجاه التغيير السياسي، داخلياً وخارجياً، ومن قلب هذا التغيير وُلد تصور الدولة الحديثة (الدولة الأمة)، وما ينبغي أن تكون عليه مؤسساتها، وأساليب عملها، كي تواكب التغير الجذري في المجتمعات. أما عربياً فقد نشأت القومية في سياقات مختلفة تماماً، مدفوعة بعوامل ارتبطت بالصراعات الدولية ومواجهة الاستعمار، وفي ظل مجتمع ذي نمط اقتصادي تقليدي، ومُصاب بالركود المزمن والتخلف العلمي والعطالة السياسية، لذا لم تحمل نظريات القومية العربية مشاريع سياسية واقعية ترتبط بمشكلات مجتمعاتها، بل مشروعاً يوتيوبياً نجح في إثارة عواطف الشعوب نجاحاً باهراً من جهة، ليؤدي من جهة أخرى إلى تعطيل وعيها وتكريس عجزها عن التقدم العلمي والنمو الاقتصادي.
إلى جانب هذه الحقائق، والتي لا تستوفي بطبيعة الحال جميع ما يمكن قوله، ثمة أيضاً مفارقات تفيد أن فكرة القومية العربية كمشروع دولة كانت عرجاء منذ ولادتها، إذ بدأت بواكيرها ومع الرواد الأوائل في ظل تنامي العصبية العروبية ضد الدولة العثمانية وسلطتها المركزية، ليطالب هؤلاء الرواد بإدارات مستقلة للحكم الذاتي في الأقاليم العربية، ثم مع انهيار الدولة العثمانية ووقوع أغلب الأقاليم العربية تحت الاستعمار الأوروبي، قامت ولأول مرة في تاريخ العرب دول بالمعنى السياسي الحديث بحدود جغرافية واضحة، ثم ازداد وضوح هذه الحدود مع فترات الاستقلال عن المستعمر، ورغم الدور الذي لعبته الظروف الدولية في نيل الأقاليم استقلالها، إلا أن المقاومات الشعبية كانت لها أيضاً حصتها في الحفاظ على مكسب الدولة الوطنية وتعزيز رابطة هويتها الناشئة.
وبتقديري كانت هذه النتائج كافية ومرضية ليحوّل القوميون العرب مشروع الدولة العربية الكبرى، ويستبدلونه بمشروع بناء الدولة الوطنية كما ينبغي أن تكون، لكن ما حصل لاحقاً كان على العكس، لينتشط القوميون في الدعوة إلى الوحدة العربية عبر محاولة هدم الدولة الوطنية ذاتها باعتبارها من وجهة نظرهم دولة قُطرية!
أيضاً من المفارقات التي تكشف عن عرج فكرة مشروع الدولة العربية الموحدة أنها خلت من هوية واضحة لمفهوم الدولة بمعناها الحديث، وهذا ما عكسه انقسام القوميين العرب ذاتهم بين يمين ويسار ووسط، بين من يريدها دولة اشتراكية وآخر يريدها ليبرالية، أو بين من يريدها علمانية وآخر يعدّ الدين جزءاً مكوناً لها، وهكذا بدل أن تجمع فكرة القومية الشعوب حولها، اختلفوا عليها كما اختلفت هي على نفسها. أخيراً، وفي ظل الظرف العربي الذي أشرت إليه، لم أهدف من استعادة الحديث عن القومية العربية ومشروع دولتها أن أبيّن استحالة هذا المشروع أو أدعو أنصاره إلى الانصراف عنه، فهذا أمر بات بيّناً وواضحاً لا يحتاج الدعوة إليه، ولكن حري بنا كعرب أن نعيد التفكير والعمل على تفعيل كافة أشكال التعاون بين دولنا باعتبارها كيانات سياسية ناجزة ومستدامة، وقابلة للتطور والنمو، والكف عن النظر إليها باعتبارها تركة ثقيلة خلفها الاستعمار، أو أنها تشكيلات سياسية مؤقتة يتعذر استمرارها.
وهذا باعتقادي شرط ضروري كي نتقن مواجهة مشكلاتنا وفهمها، ومن ثم اجتراح الحلول المناسبة لها، لا أن نهمل ذلك كله ونعطل حاضرنا بانتظار معجزة قيام الدولة العربية الكبرى، كما يتوهم صاحبنا الأكاديمي ومعه جزء غير قليل من الشعب العبي الذي يملأ دولاً عدة على طول الجغرافيا الممتدة من بغداد.. لتطوان!