برغم حضور الصورة وطغيانها بأشكالها كافة ولاسيما الحيّة منها المتمثلة بالفيديوهات المنتشرة عبر وسائل التواصل العامة «السوشل ميديا» وبالتالي استئثارها بالوقت لدينا على مستوى الاطلاع وتقديم المعرفة بطرق وأساليب متعددة، إلا أن هناك فئة كثيرة ربما كنتُ واحدا منهم لاتزال تميل إلى المقروء، وتثق به أكثر من المرئي أو حتى المسموع، لكن المقروء نفسه تبدّل وتغير من الورق الذي ظل يحتمل ويتحمّل تناقل المعرفة عبر التاريخ الإنساني إلى الشاشة المرئية التي تقدم لك المعلومة حاضرة بيسر وسهولة بعيدًا عن عناء البحث بين الصفحات، ومع ذلك لايزال الحديث يكثر بين حين وآخر عن الفروق المختلفة بين الصحيفة المنشورة ورقيّا وبين نسختها الإلكترونية مثلا من حيث الحضور فينا، ويميل أولئك المفتونون بالطقوس والعلاقات الخاصة مع المقروء إلى الحديث بعاطفة عن رائحة الورق وارتباطه فيها، وهو ارتباط تاريخي وعميق على اعتبار أن الرائحة ظلت دائما أحد مثيرات التداعي في الإنسان، شأنها شأن المكان الذي تمثل (طللًا) قديما، أو حتى الصوت (سجع الحمام وتغريد الطيور) قديمًا أو الأغنية عند من هم أقل قدمًا، وهو ملمح لا يحاول الخوض في أثر الحضور وتبعاته حين يتجه إلى ارتباطه بطقوس وعادات خاصة، والحقيقة أن الأمر بدا لي من زاوية أخرى أكبر من هذه الطقوس، وأكثر اتّساقا مع الواقع المعاصر للمعرفة والتعلم حين صار أكثر تخصصا وانحسارا على ما نريد من دون أن يعترضنا غيره هنا وهناك.. فنحن نتجه مباشرة للـ(رابط) الذي نريد عبر الموقع الإلكتروني من دون أن نتعثّر بفضول هنا، أو تشويق هناك، كحالنا حين نتنقل بين صفحات الجرائد حتى نبلغ مساحة نقيم فيها ونجاور من خلالها ما نريد وما لا نريد، وهذا الانحسار أو الوصول الانتقائي بقدر ما قام بتوفير الجهد والوقت لنا بقدر ما حرمنا من فضل الفضول في التعلّم أو الاطلاع حتى فيما لم نكن لنهتم به لولا اعتراضه لنا، وهو ملمح عام يمكن تعميمه على رؤيا المعرفة بين الماضي والحاضر، فالمعرفة القديمة تميزت دائما بالشمولية.. فعالم الفلك القديم مثلا عالم في الرياضيات والفقه والتاريخ.. إلخ، لكن عالم اليوم مختص بجزئية خاصة ربما في علم واحد، وليس هذا بالطبع تنقيص من واقع المعرفة الآنية حين ازدحمت تفصيلاتها وتطورت مباحثها وتوالدت علومها، لكنها محاولة لفهم كل هذه الآراء حيال النشر الإلكتروني، الذي بات واقعا لا تجدي معه رائحة الورق ولا طقوسنا القرائية، لكننا حتما سنتذاكر دائما جريدة الطائرة على سبيل المثال، التي كلما طالت الرحلة التهمنا كل ما فيها ما يعنينا منه وما لا يعنينا، وما نحاول فهمه ونؤمن به أو ما ننكره ونفرّ منه، ولعلني أعرف أن هناك كثرا مثلي لا يزالون غير واثقين بالكلمة الوامضة على الشاشة، فبالنسبة لي لا تزال الكلمة التي تتحمّم بالحبر هي تلك التي تتنشّف بشمس الحضور الواثق، وتعرض على شاشة العيون الباحثة عن مساحة آمنة من الضوء لا يعتريها التغيير، ولا يزيدها مرور الأيام إلا تمحيصًا ومراجعة، في حين تبقى الكلمة عبر وسائل القراءة الأخرى ولا سيما الإلكترونية منها شائعة كثيرا، لكنها مرتبكة وآيلة للزوال دائما..
وفي المجمل حول كل المقروء وليس فقط الصحيفة الورقية أو الإلكترونية، نحن في آخر الأمر أمام وسائل قرائية ومعرفية متعددة وتلقائية في حياتنا اليومية، لكل منها تأثيرها وحضورها ومصداقيتها، ولا يتبقّى لنا في آخر الأمر إلا أن نربّي أنفسنا وأبناءنا على خلق السؤال، لا على تقديم الإجابات، سواء عبر الكتاب أو الفضاء، فالإجابة أوفر من السؤال، والمقروء حياة نتعاطاها وإجابات نتداولها، حتى إن لم نَعِها أو نتقن قراءتها هي الأخرى..!