رهان إدارة الرئيس جو بايدن على براغماتية الجمهورية الإسلامية الإيرانية واستعدادها للتعاون إقليمياً معها رهان محفوف بالمخاطر، أولاً، لأن أذرع طهران ناشطة في العراق واليمن وسوريا ولبنان، تتحدى الولايات المتحدة ومصالحها. ثانياً، لأن النجاح في "ردع" إيران عبر معادلة الترغيب والترهيب هو جزء من الترتيبات الانتقالية الموقتة وليس نقلةً نوعية في الاستراتيجية والعقائدية الإيرانيتين. ثالثاً، لأن الأوراق في أيدي البيت الأبيض باتت مثقوبة نتيجة وضوح انحسار التأثير الأميركي في إسرائيل وسياساتها. رابعاً، لأن فريق بايدن وضع عملياً مصير سياساته الخارجية في مرحلة الانتخابات الرئاسية في أيدي التطرّف العقائدي والعملي في إسرائيل وإيران حيث عملة الثقة رخيصة. وخامساً، لأن فريق الرئيس السابق دونالد ترامب ينوي تبني شعار "ترامب للسلم وبايدن للحروب" إشارة إلى أن رئاسة ترامب كانت خالية من الحروب فيما رئاسة بايدن مُثقلة بحرب أوكرانيا، وحرب غزة، وحرب الحوثيين في اليمن على الملاحة الدولية في البحر الأحمر وبرعاية إيرانية مهما نفت طهران ذلك.
القدرات العسكرية الحوثية ليست من إنتاجٍ يمني محلي بل هي نتيجة عكف الحرس الثوري الإيراني على تجهيز الحوثيين عسكرياً مباشرة وعبر الذراع الأهم لطهران، "حزب الله" في لبنان، كي ينفّذ الحوثيون أي أجندات إيرانية إن كان ضد السعودية في السنوات الماضية، أو ضد الملاحة البحرية الآن بحجة دعم الفلسطينيين في مواجهة حرب إسرائيل على غزة.
إحدى مشكلات إدارة بايدن أنها تريد الإبحار بين الدبلوماسية والإنذارات النهائية، آملة ألّا تضطر لتنفيذ تهديداتها. العمليات العسكرية الأميركية والبريطانية ضد الحوثيين في اليمن لن تفلح في القضاء على الحوثيين وترسانتهم الإيرانية ما دام البيت الأبيض يتجنب أن يحمّل طهران مباشرة المسؤولية.
إدارة بايدن أظهرت أنها في حاجة إلى حسن النيات الإيرانية وأنها جاهزة لمكافأتها على ذلك. في اعتقادها، لقد نجحت جهود الرئيس بايدن في احتواء حرب غزة ومنع اندلاعها إلى حرب إقليمية، بالذات عبر البوابة اللبنانية، وذلك بقرار تعاون إيراني للجم "حزب الله" مقابل تفاهمات أميركية - إيرانية ما زالت في خانة السرية، جزء منها يتعلق بفك الحجز عن أموال إيرانية وبالبحث في وعد رفع العقوبات لاحقاً.
فريق ترامب يتهم فريق بايدن بالسذاجة السياسية انطلاقاً من أن الأسباب الرئيسية وراء تعاون طهران هي أولاً عدم قدرتها عسكرياً على حرب مع إسرائيل بدعم الولايات المتحدة، وثانياً، عدم اضطرارها للتورط مباشرة في حرب مع إسرائيل وضد المصالح الأميركية ما دامت أذرعها تقوم بذلك، وثالثاً، لأن براغماتيتها النووية تقتضي الصبر الاستراتيجي إلى حين استكمالها البرنامج النووي لربما في غضون سنة. وبالتالي، إن شراء حسن النية الإيرانية إنما هو استثمار في تمكين القدرات الإيرانية - النووية منها وتلك التي تدخل في خانة الأذرع الإقليمية.
ما يكبّل أيدي فريق بايدن نحو الحوثيين مثلاً، هو الرغبة في إنجاح عملية تفاوضية سلمية لليمن تتطلب إرضاء الحوثيين بدلاً من مواجهتهم، واستدراج انتقامهم داخلياً ونحو السعودية وفي البحر الأحمر. إدارة بايدن حذفت الحوثي من قائمة الإرهاب ليس فقط لترغيبهم بالصفقات بل أيضاً لإظهار تهوّر إدارة ترامب عندما أدرجت الحوثي على قائمة الإرهاب وعندما مزّقت الاتفاقية النووية مع إيران.
اليوم، تقع إدارة بايدن بين المطرقة والسندان. فهي، من جهة لا تستطيع الصمت على التحديات الحوثية لسلامة الملاحة الدولية في البحر الأحمر، ولذلك تقوم بعمليات عسكرية محدودة، وليس بحرب على الحوثيين في اليمن. ومن جهة أخرى، تدرك إدارة بايدن أن عملياتها لن تقضي على إمكانات الحوثيين العسكرية لأن اليمن يشبه أفغانستان بملامحه العسكرية، ما يقيّد العمليات الجوية ويكبح قدرتها على تدمير الصواريخ المتحركة من كهف إلى آخر.
الأهم، أن إدارة بايدن توافق الحكومة الإيرانية في زعمها أن لا علاقة مباشرة لها بعمليات الحوثيين، وأن لا أسلحة جديدة قامت طهران بتقديمها إلى الحوثي. السبب وراء عدم تحدي إدارة بايدن للمزاعم الإيرانية نحو نشاطات الحوثي في البحر الأحمر هو أن إدارة بايدن في حاجة لاستمرار امتناع طهران عن التصعيد في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط.
فريق ترامب يعتبر ذلك نزولاً أمام الابتزاز الإيراني ومجازفة خطيرة على الولايات المتحدة ومصالحها، ويرى أن الإمساك بالعصا في منتصفها إنما يوحي بأن الضعف الأميركي بنيوي وأن أميركا تعاني الانكسار الاستراتيجي. ويعتبر أن ضعف إدارة بايدن أمام حكومة طهران إنما هو ضعف الحزب الديموقراطي بالذات الذي بدأ في عهد الرئيس باراك أوباما صاحب الانعطافة الاستراتيجية الكبرى نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الحزب الديموقراطي يذكّر الحزب الجمهوري بأن الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش هو الذي قدّم إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية هدية العراق على طبق من ذهب عندما اجتاح واحتل العراق وقام بتنظيفه من حزب البعث الحاكم حينذاك. هذا بالذات ما أدّى إلى انتعاش الحرس الثوري القائم على نشاطات الأذرع الإيرانية. فلقد استدعى جورج دبليو بوش الإرهابيين ليحاربهم في العراق بدلاً من محاربتهم في المدن الأميركية كما قال. وعندما "نظّف" العراق وجيشه من حزب البعث، ساهم بوش في خلق "داعش" الذي تبنته طهران ذريعة لبسط سيطرتها على العراق ولإنشاء "الحشد الشعبي" وفصائل أخرى مثل "حزب الله"، تخضع لأوامرها وتطالب بخروج القوات الأميركية من العراق وتقوم بعمليات عسكرية ضد القواعد والمصالح الأميركية في سوريا وغيرها.
نجحت طهران في "مكننة" أذرعها داخل الحكومة العراقية بالذات عندما أصبح الحشد الشعبي جزءاً من القوات المسلحة العراقية بعدما اتخذ قرار تحوّله إلى قوات نظامية عراقية. وكان الحشد الشعبي أُسِّس في 2014 كفصائل شيعية مسلّحة استجابة لفتوى المرجع الشيعي الأعلى علي سيستاني بعد سقوط محافظة نينوى بيد "داعش". الفتوى بقيت واستمر الحشد الشعبي بتحجيم الدولة العراقية وتوسيع القبضة الإيرانية على العراق ولم يقم آية الله السيستاني بإصدار فتوى جديدة تقيّد الحشد الشعبي وتعيد السيادة بكاملها إلى الدولة العراقية.
من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى لبنان، ما زالت طهران تنتهك سيادة هذه الدول برعايتها العسكرية والسياسية لقوات غير نظامية ولميليشيات تابعة لأوامرها يديرها الحرس الثوري الإيراني. حركة "حماس" مختلفة عن الأذرع الإيرانية لأنها تتلقى الدعم منها ومن غيرها، ووضعها مختلف مثلاً عن وضع الحشد الشعبي العراقي و"حزب الله" اللبناني لدى إيران.
مشكلة إدارة بايدن هي أنها اتخذت قرار الاستثمار دبلوماسياً بإيران فيما الجمهورية الإسلامية الإيرانية ما زالت تستثمر عسكرياً في الدول التي تسبب المشكلات للولايات المتحدة، وما زالت ترعى الفصائل والميليشيات التي تكنّ العداء الكامل للولايات المتحدة وتعارض وجودها في المنطقة.
لعل الاستثمار الدلوماسي ليس فقط قراراً حكيماً لأنه يُجنّب منطقة الشرق الأوسط حرباً قد تتحول إلى حرب عالمية، بل قد يكون رهاناً ناجحاً. العلّة هو أنه رهان وليس استراتيجية. بل لعله يكون رهاناً أميركياً وليس استراتيجية إيرانية، وفي ذلك مغامرة كبرى.
ما دامت إدارة بايدن تسير على الحبل المشدود في سياساتها نحو إسرائيل وإيران معاً، فقد لا تتمكن من تحقيق تلك النقلة الضرورية من الترتيبات الموقتة الانتقالية إلى تلك الصفقة الكبرى التي تحلم بتسوية إقليمية.
البعض يعتقد أن الرهان على الدبلوماسية هو السبيل الوحيد وأن فريق بايدن سيتمكن من تلك القفزة إلى التسوية الكبرى. هذا البعض يعتقد أنه لو كان دونالد ترامب في الرئاسة الأميركية، لكانت المنطقة دخلت حرباً موسّعة ربما أدّت إلى حرب عالمية.
أحد المقربين جداً من دونالد ترامب قال لي: هذه الانتخابات ستكون حول المزيد من الحروب إذا نجح بايدن، مقارنة بالمزيد من السلام إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض. أضاف: "حرب غزة لم تكن لتقع على الإطلاق لو كان ترامب رئيساً"، مذكِّراً بأنه خلال رئاسة ترامب لم تحدث حروب، أما في زمن بايدن فقد اندلعت حرب أوروبية في أوكرانيا لا فقط حرب فلسطينية - إسرائيلية في غزة.
أضاف المقرّب من الرئيس السابق أن ترامب لا يخضع للابتزاز الإيراني ولا يسقط في فخ الدبلوماسية الناعمة فيما أذرع الأخطبوط تتعمّق.
بقي أمر واحد من الضروري الإشارة إليه وهو ضرورة إبقاء العيون مفتوحة على ما قد يكون آتياً إلى الساحة السورية. فهناك قد تقرر إدارة بايدن أن تبيّن للمشككين فيها أنها ليست نمراً من ورق، وأنها تحسن استخدام الوسائل العسكرية والدبلوماسية طبقاً لما تقتضيه الحاجة، وأنها تدرك تماماً آفاق المناورة الإيرانية. فلنرَ