: آخر تحديث

استغلال البيئة

11
12
11

ينتمي استغلالُ البيئة واعتصارُ قواها إلى ثقافةٍ اجتماعيّة وسياسيّة، وبالتّالي إلى خُلُقيّة تشرّبهها الطّبقات حديثة الميلاد من بيئة العصر الصّناعيّ الحديث، واستبطنتْها وعياً ومَسْلكاً. أخصُّ هذه الطّبقات الاجتماعيّة، تعبيراً عن تلك الثّقافة، هي البرجوازيّة أو البرجوازيّات الأوروبيّة، والغربيّة استطراداً، منذ بدء ميلادها في القرن السّابع عشر حتّى اليوم. نقول هذا لا لرغبةٍ منّا في إدانة طبقة كان لها أبلغ الأدوار في صناعة فصولٍ من التّقدّم الإنسانيّ، في القرون الأربعة الأخيرة، بل نقول هذا لأسبابٍ ثلاثة: لأنّ نشأة الرّأسماليّة اقترنت بها، فكانت سبباً لها ونتيجةً في الآن عينِه؛ ولأنّ الرّأسماليّة هي رحم الثّورة الصّناعيّة والثّورات التّكنولوجيّة التي تولّدت منها؛ ولأنّ هذه الثّورات هي التي أفضت إلى تلك العلاقة الجديدة التي أقامها الإنسانُ الحديث بالطّبيعة: علاقة السّيطرة والاستغلال!

لكنّ سبباً آخر، غير الأسباب التّاريخيّة المومأ إليها، يحْملنا على أن نَعْزُو تلك الثّقافة السّياسيّة، الأخلاقيّة إلى البرجوازيّات. يتعلّق الأمر، في هذا، بسببٍ أيديولوجيّ صرف متمثّل في دفاع الخطاب اللّيبرالي عن فكرة الصّناعة وفكرة التّقنيّة، من حيث هما رافعتان للتّنمية والتّحديث والتّقدّم، ولتسريع وتائرهما. ونستطيع، مع قليلٍ من حفريّات المعرفة، أن نعثر لهذا الخطاب الأيديولوجي على أصولٍ فلسفيّة، مُضْمَرة أو صريحة، تؤسِّس له وتسوِّغ عبّرت عنها الفلسفةُ الحديثة في تعاليها بالإنسان وبالإرادة الإنسانيّة، بل في تمثّلها الفعل الإنسانيّ رديفاً مصغَّراً للفعل الإلهيّ! وضمن هذا المعتقَد الفلسفيّ الذي تحوَّلت فيه المركزيّة إلى الإنسان في العالم، نُظِر إلى استغلال الطّبيعة والسّيطرة عليها، لا من حيث هُما من أفعال العدوان عليها، بل بما هُما تمثيل للإرادة الإنسانيّة وتحقيق لمركزيّة الإنسان في العالم.

لا ينْظُر المعتدون على الطّبيعة والبيئة إلى أفعالهم العدوانيّة التّدميريّة للبيئة من حيث هي أفعالٌ عدوانيّة، لأنّ الاستغلال عندهم مجرّدُ استثمارٍ مشروع، على ما يقول معتقدُهم اللّيبراليّ، وليس فيه ما يُشين ما دام يجري قانونيّاً ويحميه القانون. إنّ المصلحة، مصلحتهم الطّبقيّة والفئويّة، تبرّر لهم ذلك الاستغلال ما دام حاصلُه عوائد جزيلة المنفعة؛ والقانون يشجّع عليه ويُبيحه لأنّ ما يتحصّل من أرباحٍ من ذلك الاستغلال الصّناعيّ والتّقنيّ للطّبيعة يعود إلى الدّولة كُلّاً، إن كانت هي من تقوم به حصريّاً، أو بعضاً كثيراً في شكل ضرائب مستَحقَّة من القوى التي يخوّل لها القانون الحقّ في ذلك الاستغلال.

بالجملة، ليس في الخطاب الصّناعويّ والتّقنويّ اللّيبراليّ مساحةٌ ما للنّظر إلى الطّبيعة بوصفها كائناً ذا حُرمةٍ من الواجب احترام قوانينه، كما تُحْتَرم قوانين الاجتماع السّياسيّ؛ كلّ الذي فيه أنّ الطّبيعة فضاء مفتوح أمام الفعاليّة الإنسانيّة وفتوحاتها المحمولة على صهوة العلم والتّكنولوجيا.

تتعرّض الطّبيعة من قوى الرّأسمال لِمَا تَعَرّض له الإنسان من هذه القوى من ضروب الاستغلال. الطّبيعةُ والإنسان معاً ضحيّةٌ لرأسمالٍ لا يرى فيهما سوى قوّة إنتاج قابلة للتّسخير الماديّ من أجل تعظيم المصلحة. يشتري مالك الرّأسمال قوّة العمل الإنسانيّ بثمنٍ بخس فيسطو، من وراء ذلك، على الفائض الذي لا تُغطّيه علاقة أَجْريّة؛ في المقابل تتعامل المصالح الرّأسماليّة مع الطّبيعة بوصفها ميداناً مفتوحاً للاستثمار والإنتاج واستخراج النّفائس على نحوٍ تبدو فيه (الطّبيعة) كما لو كانت ملكيّة لمن يستغلّونها! وكما لا يأبه المستغِلّ لحقوق المنتِج (العامل)، كذلك لا يأبه لحقوق الطّبيعة ولا لحقوق البشريّة القادمة في الطّبيعة؛ لأنّ مبْنَى الاستغلال الرّأسماليّ على أخلاق الأنانيّة التي تبرّر له ما يُفصِح عنه من جشعٍ لا محدود.

يصطدم، اليوم، على مسرح الطّبيعة والبيئة منطقان متباينان وإرادتان على طرفي نقيض: منطق الحياة ومنطق الرّبح. تُجسِّد الأوّل وتعبّر عنه إرادةُ حِفْظ الشّروط الطّبيعيّة للبقاء؛ وتجسِّد الثّاني وتعبّر عنه إرادة السّيطرة (على الطّبيعة) التي تقود حتماً إلى الفناء. ليس بين المنطقين من مشتَرَكٍ يلتقيان عليه لأنّهما متنابذان ومتلاغيان بحيث لا قائمة تقوم للواحد منهما إلا ضدّ الآخَر. الفارق بين وضْع كلٍّ منهما أنّ الطّبيعة في حالة دفاعٍ عن نفسها، بقوانينها، ضدّ إرادة العدوان عليها من داخلها، ولكن من خارج نظامها القانونيّ الخاصّ.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد