: آخر تحديث

الواقع الغربي وأسئلة المصير

18
18
12
مواضيع ذات صلة

التحولات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم المعاصر قد تكون مقدمة لمخاض عسير سيبلغ مداه في المستقبل القريب، من خلال التحول الكلي بين الدول؛ هذا التحول الاقتصادي هو في حقيقته سير نحو النهاية التي تصيب المجتمعات، والتاريخ.

وقد ظهرت بوادر الكثير من المآلات وإرهاصات ذلك الوقوع، والاصطدام الذي يورث فناء الآخر، والحالة الصادمة في صراع الدول، وهي مجموعة السبع الكبرى، أو الدول الأكثر تصنيعاً في العالم، وهي تجمع اقتصادي قاد العالم لأكثر من خمسين سنة تحت مظلة الولايات المتحدة. وجميع الدول، باستثناء اليابان، تنتمي إلى الغرب، وهذه الدول قامت بعد الحرب العالمية الثانية بمساعدة ومعونة من الولايات المتحدة، وبالتالي أصبحت تابعة لها سياسياً، وأصبح اقتصادها مرتبطاً بالاقتصاد الأمريكي، من خلال إجراءات مُحكمة لا يمكن الفكاك منها. ورغم أن تلك الدول استفادت خلال صراع الحرب الباردة، حيث كانت تنتج معظم إنتاج العالم الصناعي، لكن وضعها تدهور بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث ظهرت دول صناعية جديدة في مناطق مختلفة من العالم، وصارت تنافس الدول الصناعية الكبرى في الأسواق التي احتلتها لعقود طويلة، بل وسحبت البساط من تحت أقدامها، بسبب رخص أسعار منتجات تلك الدول، وجودة منتجاتها.

وقد تسارع تراجع الدول الكبرى، وانغمس معظمها في أزمات اقتصادية راكمت عليها ديوناً ضخمة، في المقابل كان هناك إطار دولي يتخلق من مجموعة دول كبرى جديدة، هي «الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا» وهي الدول المعروفة بتجمع «بريكس»، وبعد أن ظهر هذا التجمع إلى معادلة اقتصادية وسياسية عالمية كبرى، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال التنسيق السياسي والاقتصادي المستمر بين دوله التي وضعت هدفاً لها، ألا وهو كسر هيمنة الولايات المتحدة، ومجموعة السبع على الواقع السياسي والاقتصادي في العالم، وإنشاء عالم متعدد الأقطاب لا تتحكم قوة واحدة في مصيره، بل إن الواقع الاقتصادي الدولي ينبئ بتفوق تلك الدول على الدول السبع، ففي تقرير نشرته صحيفة «لو جورنال دو ديمانش» الفرنسية، فقد تفوقت دول مجموعة «بريكس»، لأول مرة، على القوى السبع الأكثر تقدماً في العالم، حيث توفر «بريكس» 31.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقابل 30.7% للقوى السبع الأكثر تقدماً.

ولا تتقدم مجموعة «بريكس» على دول مجموعة السبع الكبار من الناحية الاقتصادية فقط، ولكن من الناحية الديموغرافية أيضاً، حيث يعيش 800 مليون شخص في دول مجموعة السبع مقابل 3.2 مليار في دول «بريكس». ولا يقف الأمر عند حدود هذا التفوق فقط؛ بل إن دولاً عدة في مجموعة الدول السبع تثقل كاهلها الديون، فديون الولايات المتحدة تبلغ واحداً وثلاثين تريليون دولار، وديون بريطانيا العظمى نحو ثلاثة تريليونات دولار. وديون فرنسا أكثر من ثلاثة تريليونات دولار، وأما إيطاليا فإن وضعها الاقتصادي مأساوي، حيث بلغت ديونها نحو ثلاثة تريليونات دولار، أي ما يمثل أكثر من مئة وخمسين في المئة من ناتجها القومي الإجمالي، وأصبحت بين أكثر الدول مديونية في العالم، إلى جانب دول أخرى مثل اليونان.

ولا تزال دول مثل ألمانيا واليابان وكندا صامدة، لكن الأزمة الاقتصادية الحالية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا سوف تعصف باقتصاد هذه الدول، فقد أفلس بنكان في الولايات المتحدة، هما «سيليكون فالي، وسيفنتشر». وانتقلت أزمة الإفلاس إلى أوروبا، حيث أفلس «بنك كريدي سويس» السويسري، وأصبحت الشركات والبنوك في أوروبا مهددة أيضاً بالإفلاس من جراء انخفاض معدلات الاستهلاك، نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم، وبسبب عدم الثقة بالمستقبل، وكذلك بسبب ارتفاع معدلات البطالة، ما دفع الرئيس الفرنسي ماكرون، مؤخراً لأن يصرح بأن «الخطر الأكبر بالنسبة لأوروبا هو أن تجد نفسها منجرّة إلى أزمات ليست أزماتها، ما سيمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية». وحذر من أن الأسوأ هو الاعتقاد بأن الأوروبيين يجب أن يصبحوا أتباعاً في هذا الملف، وأن يستقوا إشاراتهم من أجندة الولايات المتحدة وردّ الفعل الصيني المبالغ فيه. لقد نطق ماكرون بما يفكر فيه القادة الأوربيون، إذ تدفع أوروبا وحدها ثمن التبعية للسياسة الأمريكية، خاصة في فرض حصار اقتصادي على روسيا، ما زاد من الضغوط على اقتصاد أوروبا، المثقل بالأعباء، حيث كانت أوروبا تعتمد اعتماداً كلياً على الغاز الروسي لتشغيل مصانعها، وتوليد الطاقة في محطاتها. في الوقت نفسه الذي يتدهور فيه الاقتصاد الأمريكي والأوروبي، ينتعش فيه اقتصاد دول أخرى انعتقت من الليبرالية البرغماتية الغربية، التي عولت على المادية الجدلية، وعلى حتمية تاريخية ادعت فهماً شاملاً للعالم، باعتبارها رؤية كلية للمصير الرأسمالي، وبرؤية إيديولوجية مركزها إنساني، وقلبها سياسي، وجوهرها مادي، أدى إلى هذا السقوط، وأفول الحتمية المادية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد