: آخر تحديث

الانقلابات الأفريقية.. الظاهرة وما بعدها

14
12
13
مواضيع ذات صلة

كأننا أمام عصر كامل من الانقلابات العسكرية في أفريقيا. في زهاء ثلاث سنوات تتابعت ثمانية انقلابات في غرب القارة ووسطها، واحداً إثر الآخر، فيما يشبه ألعاب الدومينو. كان آخرها بمالي وبوركينا فاسو والنيجر وأخيراً الغابون.

لاقت أغلب الانقلابات المتتابعة ابتهاجاً وترحيباً في مجتمعاتها بأثر تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتفشي الفساد في بنية السلطة العليا وتغوُّل الاستبداد السياسي وتوحش النفوذ الأجنبي على مقدرات تلك الدول.

 لم تنشأ ظاهرة الانقلابات العسكرية من فراغ سياسي واستراتيجي.. إنها تعكس أزمة شرعية مستحكمة تضرب أغلب البنيان السياسي في القارة.. هنا بالضبط صلب الظاهرة. كما تعكس عمق الضجر العام من الإرث الاستعماري الفرنسي الذي لا يزال جاثماً على المستعمرات السابقة.

 لم يكن انقلاب الغابون مفاجئاً، حيث توافرت كل عوامل ونذر الغضب. إنها لعنة التلاعب بالدستور ومصادرة أية احتمالات لتداول السلطة.

 قبل أربعة أشهر جرى تعديل دستوري لتمكين الرئيس المريض «علي بونغو» من فترة رئاسية ثالثة تمتد لسبع سنوات تضاف إلى (14) سنة قضاها في الحكم خلفاً لوالده «عمر بونغو» الذي بقي في السلطة 42 سنة، من 1967 حتى 2009.

 هناك ما يستدعي التساؤل بشأن حقيقة ذلك الانقلاب، فقائده الذي اختير رئيساً انتقالياً ينتمي من ناحية والدته إلى «عائلة بونغو».

 جرى تفهم غربي واسع لدواعي الانقلاب العسكري، الذي جرت وقائعه فجر اليوم التالي لإعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في الغابون، فقد شابتها مخالفات عديدة وافتقدت النزاهة والشفافية بحسب جوزيب بوريل مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.. كان ذلك اعترافاً متأخراً بأثر رجعي. لم يكن ذلك سراً خافياً، لكن المصالح الغربية استدعت الصمت، أو التواطؤ، لعدم إحراج الرئيس الحليف، الذي يتمتع بصلات وثيقة مع قصر الإليزيه.

 بصياغة أمين عام الأمم المتحدة «أنطونيو غوتيرس» فإن «هناك دولاً أفريقية عديدة تعاني تحديات وأزمات، لكن الحكومات العسكرية ليست حلاً».هذه نصف الحقيقة، النصف الآخر أن بقاء الأمر الواقع الذي يفتقد لأية شرعية، ليس حلاً هو الآخر.

  حتى تتضح حقائق ما جرى في الغابون هناك فرضيتان رئيسيتان:

 * الأولى، أنه انقلاب قصر على خلفية تشققات وصراعات عائلية وعدم قدرة الرئيس المريض على الوفاء بمتطلبات دوره في حفظ المصالح الفرنسية.وفق هذه الفرضية لا يمكن استبعاد أن تكون فرنسا ضالعة فيه، أو على علم مسبق به، أو أن يكون هناك تقبُّل أمريكي لتغيير الجياد، خشية أن يتمدد الدور الصيني الاقتصادي والاستراتيجي في ذلك البلد الأفريقي الصغير في مساحته والغني بموارده النفطية والتعدينية.

  * الثانية، أنه يدخل في سياق موجة الانقلابات العسكرية تعبيراً عن الضجر البالغ من تغول النفوذ الفرنسي.

 بين انقلابي النيجر والغابون اختلفت المقاربات الفرنسية. بدت باريس أكثر حذراً في مواجهة انقلاب الغابون. لم تكن هناك تهديدات فرنسية، أو أوروبية، بتدخل عسكري تحت ادعاءات الدفاع عن الديمقراطية وإعادة المسار الدستوري وعودة رئيس النيجر المنتخب «محمد بازوم». لم تكن الضربة التي تلقتها باريس في الغابون بمستوى خطورة انقلاب النيجر.  

 في حالة انقلاب النيجر، ذهبت بالغضب والتحريض إلى التدخل العسكري قبل أن تتراجع خشية التورط في حرب إقليمية غير مضمونة العواقب، لكنها لم تتوقف عن التصعيد الدبلوماسي لعلها تنجح بالضغوط والعقوبات، فيما عجزت عنه بتلويح السلاح.

وفي حالة انقلاب الغابون لم يكن هناك سند من داخل القارة ك«المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا - الإيكواس» يوفر أي غطاء سياسي وعسكري.

على غير المعتاد في السياسة الصينية، أصدرت وزارة خارجيتها بالساعات الأولى لانقلاب الغابون بياناً دعت فيه إلى ما سمَّته «العودة إلى النظام الطبيعي وعودة الرئيس علي بونجو». إنها الاستثمارات الصينية ومستوى رهانات بكين على الموقع الجيوسياسي للغابون في مشروع الحزام والطريق، المصالح الاقتصادية والاستراتيجية ولا شيء آخر غيرها.

ولاء عائلة «بونغو» لباريس لم يمنع من الانفتاح على بكين. لموسكو حضورها لكنها لا تتمتع بنفوذ خاص مماثل.

 بدت موسكو بعد انقلاب الغابون أكثر حذراً، وقالت إنها تراقب الموقف عن كثب، كنوع من تأجيل الأحكام والمواقف لحين اتضاح الحقائق.

 في التفاعلات الصاخبة تبدَّت درجة صريحة من عجز الاتحاد الأفريقي، تصريحاته ومواقفه شبه فولكلورية، إدانة الانقلابات وتعليق عضوية الدول التي تُجرى بها من مجلس الأمن والسلم التابع له، لحين عودة المسار الدستوري، ولا شيء آخر يعتد به.

 عند كل انقلاب يلوح الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على قادته، لكنه يفتح بالوقت نفسه مسارات للتفاهم ضماناً للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية. لا العقوبات قادرة على وقف ظاهرة الانقلابات العسكرية في القارة، ولا التهديدات بالتدخل بوسعها أن تحفظ النفوذ القديم من التآكل والانهيار، فضلاً عن عواقبه الوخيمة على المصالح الغربية نفسها.  تحتاج القارة لمقاربات أخرى أكثر انفتاحاً على سلامة الديمقراطيات، قواعدها وإجراءاتها، أن تكون حقيقية لا منتحلة، وأكثر تقديراً بالوقت نفسه لضرورات استقلال القرار الوطني، أو أن تكون أفريقيا للأفريقي على ما طمح مطلع ستينات القرن الماضي الآباء المؤسسون للاستقلال والتحرر الوطني.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.