: آخر تحديث

مكانة اللاعبين الجدد في رسم النّظام الأمني العالمي

16
16
18
مواضيع ذات صلة

القمم الثنائية والجماعية التي عُقِدَت الأسبوع الماضي في الدول الخليجية العربية إنما هي دليل إلى قفزة نوعية في مسيرة الأمن الذاتي والأمن الجماعي بمفهومه الجديد. من القمة الثنائية بين رئيس وزراء اليابان والقيادات السعودية والإماراتية، وثانية بين هذه القيادات والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى القمة الجماعية غير المسبوقة بين قيادات دول مجلس التعاون الخليجي الست ورؤساء دول آسيا الوسطى الخمس، هناك يقظة لافتة في الرؤية الخليجية لمكوّنات الأمن ووعي لكيفية الإمساك بزمامه محلياً وإقليمياً.
 
هذا جديد وفائق الأهمية، ليس فقط على صعيد دول مجلس التعاون - السعودية والإمارات وقطر وعمان والكويت والبحرين - بل أيضاً على مستوى العلاقات الأمنية لهذه الدول مع الحلفاء التقليديين، وعلى صعيد تعريف الأمن وصقله مع دول دخلت مؤخراً في علاقات استراتيجية مع منطقة الخليج مثل الصين وروسيا. وبالقدر نفسه من الأهمية، أخذت الدول الخليجية العربية على عاتقها معالجة مخاوفها من إيران وتركيا وهي تعكف على حل مشكلاتها بنفسها بلا الاتكالية القديمة على الولايات المتحدة أو على غيرها.
 
تغيَّر مفهوم الأمن الجماعي ما بعد حرب أوكرانيا، فلم يعد الأمن العالمي الركيزة الأساسية للعلاقات الدولية، لا سيما بعد عولمة ملف شمال الأطلسي "ناتو" وتوسّعه إلى آسيا. التكتلات التي برزت في زمن القطبين الأميركي - السوفياتي مثل كتلة "دول عدم الانحياز" تلاشت مع زوال القطبين. ظهرت مجموعة "بريكس" التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا ككتلة تحدي للولايات المتحدة، لكن تطلعاتها لتصبح مركزاً بديلاً للاقتصاد والأمن لم تكن واقعية، ولم تتمكن هذه الكتلة من قيادة الأمن العالمي. "مجموعة العشرين" التي تضم أغنى الدول من مختلف أنحاء العالم تمزقت بسبب اختلافات أعضائها الجذرية حول حرب روسيا في أوكرانيا.
 
"مجموعة السبع" للدول الصناعية ما زالت متماسكة ككتلة وكداعمة لحلف ناتو الذي يضم الدول الغربية، وبات ينظر إلى روسيا إلى أنها عدو له وإلى الصين أنها منافس لا يؤتَمَن. حلف ناتو الذي يتكوّن من 31 دولة هو حلف عسكري بات لربما الأهم في العالم، وهو يشمل دول الاتحاد الأوروبي كافةً. حرب أوكرانيا جعلت منه كتلة عسكرية ازدادت تفوقاً تكنولوجياً واستراتيجياً. ذلك أن هذه الحرب الذي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعطت الفرصة للصناعات العسكرية الأميركية والأوروبية لاختبار أسلحتها والتكنولوجيا العسكرية لديها لتطويرها. هناك من يقول إن هذه الصناعات الكبرى الرديفة للحكومات هي التي ورّطت فلاديمير بوتين في حرب أرادتها لتحقيق مصالحها.
 
بغض النظر عن صحة هذا الرأي أو ذاك، إن حرب أوكرانيا غيّرت وجه العالم وسنحت الفرصة للتكتلات الإقليمية لتعيد اختراع نفسها، أو أقله لتسريع خطواتها العملية نحو التكامل في صفوفها. دول مجلس التعاون الخليجي هي بين أفضل الأمثلة على بزوغ استراتيجية إقليمية رؤيوية بمفهومٍ أمني إقليمي متعدد الحلقات والطبقات والتحالفات.
 
قيادات دول مجلس التعاون الخليجي لا تسعى إلى مواجهة مع الغرب أو ضد حلف ناتو. فلا مصلحة لها في مثل هذا العداء، ولا هي بصدد التحالف مع الصين أو روسيا في وجه عولمة "ناتو" وامتداد الحلف إلى ناتو آسيا. على الجانب الآخر، ليس هناك مؤشرات على نية حلف الناتو لنشر خيمة عولمته في منطقة الخليج، أو على استعداد دول مجلس التعاون الخليجي للانتماء إلى حلفٍ واضح في عدائه لروسيا وكذلك للصين.
 
قراءة معنى عولمة الناتو تفيد في الواقع أن حلف شمال الأطلسي، بعولمته، يمحو الحدود التقليدية deleting boundaries. وهذا لربما يثير الخوف الكبير لدى الصين وروسيا، لأن لا الصين ولا روسيا قادرتان على الرد بعولمة مماثلة. بكلام آخر، ليس في وسع روسيا مثلاً إنشاء كتلة وارسو التي خلقها الاتحاد السوفياتي وكانت رده على حلف ناتو.
 
قد يكون في وسع الصين الرد عسكرياً على عولمة "ناتو"، بالذات في بحر الصين، لكن ليس في وسعها خلق وعولمة كتلة تابعة لها، على نسق الناتو. هذا يعني أنه ليس في إمكان الصين أن تكون استباقية ورائدة في مسألة الأمن الجماعي أو الأمن العالمي. وهذا فائق الأهمية. هذا أمرٌ تأخذه دول مجلس التعاون الخليجي في الحساب، وهي تصوغ مساراتها وخياراتها الأمنية.
 
البعض اعتقد أن مجموعة "بريكس" مرشحة لتكون الرد على الناتو وعلى عولمته، وهناك دول عدة من ضمنها السعودية والإمارات كانت ترغب في الانتماء إلى البريكس. الحرب الأوكرانية مزّقت صعود بريكس، وما عدم تمكن الرئيس الروسي من حضور القمة شخصياً سوى مثال على تداعيات هذه الحرب.
 
القمة ستُعقد بتاريخ 22 آب (أغسطس) المقبل في جنوب أفريقيا، وهي الأولى على المستوى الشخصي منذ جائحة كوفيد. كان الرئيس بوتين يأمل حضور القمة لأسباب عدة، من بينها فرصة اللقاء شخصياً مع نظيره الصيني شي جينبينغ، لا سيما ما بعد قمة ناتو الاستفزازية لكليهما. فهناك مشاريع مهمة تتطلب البحث وجهاً لوجه بين الرئيسين، من التخطيط الاستراتيجي للرد على عولمة الناتو إلى أنابيب غاز بديلة من نورد ستريم-2. بوتين لن يتمكن من حضور القمة تجنباً لإحراج رئيس جنوب أفريقيا وإحراج نفسه نظراً لوجود مذكرة لاعتقاله من المحكمة الجنائية الدولية باتهامه بجرائم في الحرب الأوكرانية.
 
لعل أهم مرحلة من تعاضد دول بريكس سياسياً برزت في الأمم المتحدة، حيث نسّقت هذه الدول مواقفها بصلابة ضد العمليات العسكرية لحلف ناتو في ليبيا. فهي كانت ضد التدخل العسكري في ليبيا، فيما كانت الدول العربية حينذاك تتخذ قراراً مع التدخل العسكري. تمكنت الدول الخمس من اتخاذ موقف موحّد مخالف للمواقف الخليجية في ملفات عدة، منها سوريا. كان ذلك في أوائل القرن الحادي والعشرين. الآن يوم آخر. فهذه الدول أقرب في سياساتها إلى الدول الخليجية العربية مما كانت، والأسباب عائدة جزئياً إلى الانطلاقة الرؤيوية والاقتصادية والسياسية والاستراتيجية للدول الخليجية العربية.
 
البراغماتية الخليجية الجديدة أعطت نفسها الحرية من سياسات قيّدتها وشقت طريقاً جديداً إلى التعاطي مع نقاط الخلاف، من دون التخلي عن المبادئ الأساسية. العلاقة مع الرئيس التركي دليل، علماً أن الإمارات مثلاً كانت تعتبره عرّاب الإخوان المسلمين الذين هددوا أمنها. اليوم، هناك تبادل زيارات ومصافحات وعقود. قد لا تكون هناك ثقة كاملة، لكن البراغماتية فرضت الثقة العملية الضرورية لمعالجة الخلافات.
 
القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى الخمس - طاجيكستان، أوزبكستان، قيرغيزستان، كازاخستان، وتركمانستان - في جدة، والتي ترأسها ولي العهد السعودي ورئيس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، إنما هي شهادة على التفكير الاستراتيجي بعيد المدى لعلاقة الدول الخليجية العربية مع العالم.
 
هذه الجمهوريات السوفياتية سابقاً والتي أُطلق عليها جمهوريات "ستان" كانت تدور في الفلك السوفياتي ثم الروسي، لكنها لم تكن بعيدة من اهتمام الولايات المتحدة من جهة، وإيران من جهة أخرى، كمثال على أهميتها. قمة جدة أتت في وقتها، ولربما هي بدورها أصبحت ممكنة أكثر بسبب الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية.
 
عالج القادة في القمة كل نواحي التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني لتعزيز الاستقرار في آسيا الوسطى ذات الأهمية الجيو-سياسية الاستراتيجية والثروات الطبيعية. تطرّقت القمة إلى أهمية مكافحة التطرّف الديني وشتى أنواع العنف، وكانت جريئة في مواقفها وفخورة بانتمائها كدول إسلامية حديثة ومعتدلة.
 
الصورة الجيو-سياسية في العالم تتبدّل يومياً. الدول الخليجية العربية تدرس خياراتها، تراقب ما يحدث بين كبار الدول، وتسير ببرامجها وأولوياتها. إنها تدرك وتعي وتستوعب الصورة الأكبر. لا تريد أن تكون كبش فداء في المنافسات، وهي تقرأ بدقة تطور التحالفات والتحديات.
 
الصين اليوم فقدت روسيا في ثنائي المواجهة مع أميركا، وهذا يشكل تحدّياً جديداً للصين لم يكن في حساباتها قبل الحرب الأوكرانية. حلف شمال الأطلسي يتوسّع في حديقة الصين الخلفية، والصين تحتاج الوقت لتفهم ما حدث ورسم خطواتها أمام الوضع الجديد. فالناتو اليوم في وجهها ليس نظرياً بل فعلياً في آسيا، وفي اليابان.
 
إنها مرحلة الواقع الجديد ومرحلة فرز النظام العالمي الجديد. بالأمس كانت المعادلة أسهل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. اليوم إنها ليست حصراً بين أميركا والصين كقوّتين عظميين. إنها مرحلة اللاعبين الإقليميين ليس للحل مكان الدول العظمى بل لأخذ مكانهم في النظام الأمني بمفهومه الجديد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد