: آخر تحديث

لبنان في مهبّ الفراغ المديد... "الثنائي الشيعي" يلتزم "الطائف" بقوة "حزب الله"؟

16
17
19
مواضيع ذات صلة

يختلف الواقع القائم في لبنان اليوم عن كل مراحل الأزمات التي مرّ فيها منذ تأسيسه. ففي السابق كان يمكن إنتاج تسويات ولو موقتة تحسم في إنجاز الاستحقاقات الدستورية برعاية إقليمية ودولية، إما عبر صفقات أو تقاطعات محدّدة تفرضها تغيّرات تنعكس على لبنان، وتزيل الاستعصاءات الداخلية. قبل العام 1990 ورغم الحروب الأهلية كان لا يزال ممكناً إنتاج تسويات وإنضاج حلول كما حدث في اتفاق الطائف، لكن الوصاية السورية التي استمرت 15 عاماً أي حتى 2005، عطّلت إمكان إنتاج حلول داخلية للأزمات، إلى أن انفجرت البلاد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2004، لكن بفارق بسيط، هو أنّ دول الخارج كانت لا تزال مهتمة بلبنان، على رغم الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة.
 
وإذا كان يمكن الحديث عن تسويات لبنانية فرضتها متغيّرات إقليمية ودولية وصفقات بعد خروج الوصاية السورية، أبرزها تسوية الدوحة عام 2008، ثم تسوية انتخاب الرئيس ميشال عون عام 2016 بعد تعطيل استمر سنتين، إلاّ أنّ هذه الحلول التي حدثت برافعة إقليمية ودولية، غيّرت الكثير في الصيغة اللبنانية وكرّست وقائع داخلية، لم يعد معها الداخل منفتحاً على أي تسويات، بصرف النظر عمّا أحدثته الانتخابات النيابية في عام 2022 من موازين قوى، طالما أنّ فترة حكم الرئيس عون رسخّت ممارسات في الحكم وأعطت قوى الأمر الواقع مزيداً من الهيمنة، أبرزها قوة "حزب الله" بدوره المحلي والإقليمي.
 
الواقع الراهن على المستويين الإقليمي والدولي، يشير إلى أنّ الفراغ في لبنان قد يستمر لأجل غير معلوم، فلا أرضية جاهزة داخلياً لبلورة تسوية بفعل الاستعصاءات والعجز عن التحاور أو إنتاج حلول، في غياب الاهتمام الخارجي بلبنان لعدم اعتباره من الأولويات. كما أنّ الأوضاع الخارجية لا تشير إلى إمكان بلورة صفقة مدفوعة بمتغيّرات كبرى تنعكس على لبنان، باستثناء الحديث عن ضرورة المحافظة على الاستقرار والتدخّل عندما يظهر أنّ ملف الحدود اللبنانية – الإسرائيلية يمكن أن يفتح على حرب إقليمية. وعلى الرغم من اللقاءات التي تُعقد حول لبنان ومن بينها اللقاء الخماسي الأخير في الدوحة، إلاّ أنّها كلها لم تقدّم مشاريع حلّ للأزمة قادرة على دفع القوى اللبنانية الطائفية لإنتاج تسوية وإنجاز الاستحقاقات المعلّقة.
 
يعود الوضع اللبناني إلى المربّع الأول. ذلك واضح من عدم الاتفاق على دعوة مجلس النواب للانعقاد وانتخاب رئيس للجمهورية، فيما البلاد تعاني من انهيارات متتالية قد تشتعل مع قرب نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وأيضاً الفراغ في المزيد من المؤسسات. ويتضح ذلك من خلال الوجهة التي اتخذتها الدول الخمس المشاركة في اجتماع الدوحة، خصوصاً في البيان الختامي، والتي لم تتبنّ فكرة الحوار بين الأطراف اللبنانيين، وهي التي كان يسوّقها الفرنسيون بالاتفاق مع "الثنائي الشيعي" و"حزب الله" تحديداً. يعني ذلك أنّ الدول الخمس باتت مقتنعة بأنّ الحوار اللبناني الحالي وفي ظلّ الظروف الراهنة، لن يصل إلى نتيجة في ظلّ الخلافات المستحكمة بين أطراف الصراع والاستعصاءات والتباعد الذي رسخّه النزاع بين القوى الطائفية والسياسية. ويعني ذلك أيضاً عدم نضوج الحل أو التسوية، إذ لا مقومات لها ولا ظروف مؤاتية، خصوصاً أنّ إيران مقرّرة في الشأن اللبناني عبر قوتها المتمثلة بـ"حزب الله".
 
النقطة الإيجابية في البيان الختامي للدول الخمس كانت التأكيد على ضرورة الالتزام باتفاق الطائف. لكن الوجه الآخر لصيغة اللقاء الخماسي يُظهر أنّ الدول الخمس ليست قادرة على إحداث خرق في الستاتيكو اللبناني المستمر على حاله، حيث فشل الخارج حتى الآن في تفكيك الاستعصاءات وحلّ الأزمة، لا في الدعوة إلى الحوار أو ممارسة ضغوط تعيد ترتيب الأولويات اللبنانية. ووسط اشتداد الصراع الداخلي بين القوى اللبنانية، بفعل التمترس حول خيارات متناقضة وشروط ترتفع يوماً بعد يوم، أبرزها تمسّك "حزب الله" بمرشحه سليمان فرنجية للرئاسة وكإسم للحوار حوله من دون مواربة، بدأت قوى لبنانية خصوصاً مسيحية، تشكّك في المبادرة الفرنسية وقدرتها على تحقيق توازن في أي تسوية محتملة. ويظهر من ردّ فعل "حزب الله" على بيان الدول الخمس في الدوحة، أنّه يستدرج كل الأفرقاء في الداخل والخارج إلى ملعبه للبحث في الاستحقاقات الأساسية للبنان، متمسّكاً بالمقايضة الفرنسية رغم أنّها سقطت داخلياً وخارجياً. وعليه يظهر أنّ الخارج حتى الآن لم يبلور وجهة حاسمة للبنان، كما كان يحدث في السابق، إذ لا الولايات المتحدة مهتمة ببلورة صيغة تسمح بإعادة ترتيب البيت اللبناني، فتركّز على مسألة الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، فيما تستمر السعودية بإعلان حيادها وترفض دعم أي مرشح، باستثناء الموقف الذي أعلنته خليجياً ودولياً بضرورة وصول رئيس من خارج منظومة الممانعة.
 
ينعكس هذا الواقع على مهمّة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، فبينما تتجّه قوى مسيحية إلى طرح الفدرالية كخيار للصيغة المقبلة، والنظام، رداً على الهيمنة القائمة، وإن كانت البطريركية المارونية لا تزال تتمسّك بالطائف، وتدعو إلى مؤتمر دولي حول لبنان، وفي الوقت الذي لا تحسم فيه الفدرالية الخلافات المسيحية بين القوى المختلفة التي التقت على رفض مرشح "حزب الله" سليمان فرنجية، خصوصاً بين "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر" الأقل قدرة على التنظيم، يظهر أنّ هذا الطرح سيقلّل من قدرة المسيحيين عموماً على التأثير في القرار ووضعهم في موقع ضعيف أمام المكوّنات الأخرى.
 
ويطرح هذا الموضوع جملةً من التساؤلات حول علاقة المسيحيين بالمكوّن السنّي الذي يرفض أي مساس باتفاق الطائف رغم التفكّك الذي يعانيه، وهو أمر تلقّفه "الثنائي الشيعي" من خلال مواقف أطلقها كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري والأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، أكّدت الالتزام بالطائف ورفض تعديله، إضافة إلى كلام الحزب عن أنّ ضمانته الوحيدة هو شخص الرئيس، وينطبق على سليمان فرنجية واعتباره من أبرز المتمسّكين بالاتفاق. وهنا يريد "حزب الله" طمأنة السنّة وفي الوقت نفسه كسر الرفض المسيحي لفرنجية، وإن كانت الأطراف المسيحية تعتبره حالةً لما يريد "حزب الله" فرضه في الرئاسة وفي مؤسسات الدولة. وحتى الحوار الذي انطلق بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، فإنّه يدور حول معادلة واحدة، أي محاولة إقناع جبران باسيل بخيار فرنجية ووضعه بين خيارين: إما مرشحه فرنجية أو قائد الجيش جوزف عون الذي عاد اسمه إلى الواجهة محلياً ودولياً كمرشح ثالث، من دون استبعاد طرح الانتخابات النيابية المبكرة إذا وصلت كل الأمور إلى طريق مسدود.
 
إعلان "الثنائي الشيعي" تمسّكه بالطائف له أهداف عدة، فهو للقول إنّه منفتح على التسوية، إنما بشروطه، ولا يريد الذهاب إلى المثالثة، أو السيطرة على مؤسسات الدولة، وإن كانت الوقائع تؤكّد هيمنته. وهذا الموقف جدّد إعلانه نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، قائلاً إنّه عندما يُطبّق اتفاق الطائف بشكلٍ أفضل يحقّق الكثير من الأهداف والمهمّ أن نحاسب المرتكبين". مؤكّداً أنّ لا طرح بتعديل الطائف أو تعديل الدستور، بما يعني رداً على أي طرح للفدرالية أو اللامركزية المالية في لبنان.
 
يتبيّن من التطورات أنّ الأزمة اللبنانية مستمرة في ظلّ العجز عن تقديم أي مشروع متكامل للحل، خصوصاً أنّ القوى التي تمثل إيران قادرة ضمن موازين القوى القائمة على قلب الطاولة أو إطالة أمد الفراغ. وحتى الآن لا يبدو أنّ هناك تقاطعات بين دول اللقاء الخماسي وإيران، وذلك على رغم الاتفاق الإيراني- السعودي. وهذا يعني أنّ البلد سينتظر استحقاقات خارجية ومتغيّرات إقليمية ودولية لإنضاج تسوية داخلية ربما لا تزال بعيدة. وفي الانتظار، يعمل "حزب الله" بقوة رغم تمسّكه باتفاق الطائف، من خلال أوراقه وتجيير الأمور لمصلحته بفرض معادلة في البلد يكون فيها المقرّر مع رئيس تحت جناحيه.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد