: آخر تحديث

هل تأملتم نهراً؟

17
17
20
مواضيع ذات صلة

هذا ليس سؤالاً للقراء، ونعلم أن الكثيرين منهم ولدوا وعاشوا في مدن تقطعها الأنهار، وفي بلداننا العربية، يكفي ذكر أسماء أنهار: النيل ودجلة والفرات، للقول إن هذه المنطقة عرفت الأنهار منذ أن وجدت، كما عرفت مجاورة البحار أيضاً، وهي التي نصف جغرافيتها بالقول: «من المحيط إلى الخليج»

«هل رأيتم نهراً»؟ سؤال افتراضي طرحه الكاتب الفرنسي أندريه موروا (1885 – 1967)، على لسان إحدى شخصيات قصة له، عنوانها «الفن الجديد»، وقف عندها مطولاً الناقد رجاء النقاش، في مقالٍ حمل عنوان القصة نفسها، تضمّنه كتابه «تحت المصباح»، وأراد مورو فيها السخرية من أذواق بعض النقّاد ممن يتصدون لتقييم اللوحات الفنية، وحتى الجمهور الذي سرعان ما ينبهر بالتقليعات والموضات الفنية الجديدة، من دون التمعن في مدى أصالة وصدقية ما ينتج من أعمال تحت يافطات هذه التقليعات.

وحسب رجاء النقاش، فإن القصة تدور حول فنان أمضى حياته وهو يرسم، من دون أن يلتفت إليه أحد، ومن دون أن يحقق أي نجاح، حتى أصيب باليأس، وراح يشكو الحال إلى صديق أديب، قائلاً إنه يفكر في هجر الرسم، والانصراف إلى أي مهنة أخرى، مهما كانت متواضعة، بعد أن ضاقت في وجهه السبل، فالنجاح متوقف على رأي البلهاء، وهم يغدقون الإعجاب والمال على المتصنعين، لا على الموهوبين.

هدأ الأديب من غضب صديقه الفنان اليائس، وبلغةٍ لا تخلو من السخرية، قال له: كن ثابتاً يا صديقي. إن الوسيلة التي تجذب الأنظار إليك هي أن تصنع شيئاً مختلفاً؛ أسِّس مدرسة فنية جديدة، وابتكر أشياء غريبة. أنكر وجود الحركة، أو السكون، أو الأبيض والأسود، الدائرة أو المربع، أدخل نوعاً جديداً من الرسم لا يدخله من الألوان غير الأصفر والأحمر. هل تستطيع أن ترسم في شهر واحد عشرين لوحة وتقول عنها إنها نواة «المدرسة المثالية التحليلية»؟

أجاب الرسام، وهو يعرف أنه لا توجد مدرسة فنية بهذا الاسم: «أستطيع رسمها في ساعة واحدة، ويؤسفني أن أعترف بأن رسوماً من هذا النوع قد تحدث دويّاً عظيماً، ولكن تنقصني البديهة الحاضرة وطلاقة اللسان، كي أجيب عن عشرات الأسئلة التي سيلاحقني بها المعجبون بعدها.

مطمئناً صديقه الرسام، قال الأديب: ليس أسهل من ذلك. كلما طُلب منك تفسير إحدى لوحاتك، تريّث قبل أن تجيب، وانفخ في محدثك سحابة من دخان غليونك، ثم فاجئه بهذه الكلمات: «هل تأملت في حياتك نهراً؟». أعلم أنه سؤال فذلكة بلا معنى، ولكنهم سيجدونه شائقاً مثيراً، وينسون أمر اللوحة العصيّة على التأويل، وسيحقق لك النصر، وتقهر النقاد، وتهزأ بالهواة والمدّعين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد