: آخر تحديث

العربية بين صعود الحضارة وتراجعها

17
15
19
مواضيع ذات صلة

في مقبرة شاه زادة في سمرقند في دولة أوزبكستان كنت أمشي قبل عدة سنوات بين الأضرحة التي تمثل آية في العمارة، المقبرة تعتلي تلة يمكن الصعود لها عبر درج طويل.. واجهات الأضرحة المصفوفة على طريق طويل والمستقلة عن بعضها، أقول واجهات الأضرحة مزينة بالخزف والموزاييك التيموري المعروف وبالخطوط العربية، توقفت عند آخر ضريح وكانت واجهته بدعاً في التزيين، وتمثل لوحة جمالية من عيون الفنون في الحضارة الإسلامية ويغلب عليها الخط العربي الذي يشرح بعض سيرة صاحب الضريح وبعض الآيات القرآنية، سألني أحد زوار المقبرة وكان أوزبكياً، وقال: ماذا مكتوب على الواجهة؟ فشرحت له المكتوب بعدها تنهد وقال أجدادي أبدعوا هذا الفن وخطوا تلك الخطوط وأنا لا أستطيع قراءتها وفهمها. لقد أثار هذا الموقف انتباهي حول تفريط كثير من الشعوب التي دخلت الإسلام في اللغة العربية بعد أن كانت هي لغة العلم والتخاطب والتفكير.

السؤال الذي صار يكبر مع الوقت هو كيف يمكن أن نتوقع من الشعوب الإسلامية أن تفهم الإسلام وهم لا يعرفون شيئاً عن لغة القرآن؟ العربية ليست مجرد لغة في الإسلام، بل هي وسيلة للتعبد، وقبل ذلك هي القناة الأساسية التي يمكن أن تقودنا إلى الوصول لغير الظاهر وما يحمله القرآن من معانٍ عميقة لا يمكن الوصول لها إلا عن طريق اللغة العربية. لذلك كانت قناعتي أن سبب انحدار الحضارة الإسلامية هو تخلي الإمبراطوريات التي حكمت العالم الإسلامي من غير العرب عن استخدام اللغة العربية وعودتها إلى لغاتها المحلية، هذه الردة الثقافية والفكرية كانت وما زالت سبباً مباشراً في تراجع دورنا الحضاري، عرباً وغير عرب. يذكرنا هذا بالقرار العظيم الذي اتخذه عبد الملك بن مروان عندما عرّب الدواوين بعد أن كانت الأمصار التي فتحها المسلمون في صدر الإسلام تتعامل بلغاتها المحلية، ذلك القرار كان مفصلا ًحضارياً أدى مع الوقت إلى صعود الحضارة الإسلامية للقمة حتى نهاية القرن الرابع الهجري.

الجدل حول اللغة لا ينتهي ومن يعتقد أن الانحياز إلى العربية سببه قومي عروبي فهو واهم لأنه انحياز مبني على أن مسببات النهضة الحضارية لا يمكن أن تبتعد عن الأسباب التي تخلق الإبداع والابتكار وقبل ذلك الإيمان والانتماء، فكيف بربكم يمكن لأمة تدّعي أنها تؤمن بكتاب هو مصدر الإلهام والإبداع ومنبع الانتماء والإيمان ثم نجد أن أبناء هذه الأمة لا يستطيعون قراءة هذا الكتاب، إلا ثلة قليلة منهم، فضلاً أن يفهموه ويغوصوا في معانيه. قد يتهمني البعض بالنظرة العاطفية، ويحق لهم هذا لولا أنني تتبعت تأثير القرآن على تطور اللغة العربية فوجدت أن فضل القرآن على العربية كبير، ولم تصبح لغة مكتوبة وموحدة في النطق ولم تتطور خطوطها ولا قواعدها إلا بفضل القرآن. إذاً الانحياز إلى العربية هو انحياز للقرآن وليس اللغة في ذاتها. وإذا كان المسلمون في كل مكان يؤمنون بالقرآن فعليهم أن ينحازوا إلى العربية فدونها فهمهم ناقص وعبادتهم ناقصة.

أغلب الملاحظات التي وصلتني على قولي إن اللغة العربية كانت سبباً رئيساً في نهضة المسلمين، وإن التخلي عنها كان غلطة كبيرة تدفع ثمنها اليوم جميع الشعوب الإسلامية، التعليقات ركزت على العجز المعاصر للغة العربية وتراجعها الحاد في النشر العلمي والفكري مقارنة بعدد من اللغات ليست بالضرورة تمثل اللغات الكبرى الأكثر انتشاراً في العالم. كان ردي هو إحالتهم إلى مقالة نشرتها في صحيفة "الرياض" قبل أكثر من عشر سنوات بعنوان "اللغة ظاهرة اقتصادية"، وتحدثت فيها عن الإشكالات التي تواجه اللغة العربية نتيجة تقلص أسواق العمل التي تطلب هذه اللغة، تخيلوا معي لو أن جميع الشعوب الإسلامية تتحدث هذه اللغة فهل سيكون حالها ما نراه اليوم، ذكر البعض أن هناك 400 مليون يتحدثون ويكتبون بهذه اللغة ولم يحدث أي تغيير. حالة العربية اليوم محيرة فعلاً ويصعب أن أفكر في حل واحد يعيد هذه اللغة إلى سابق مجدها لكن الأكيد أن العرب والمسلمين مقصرون بشدة في حق لغتهم التي تجعلهم مختلفين عن الآخر ومنتمين إلى حضارة ممتدة وخالدة.

أكثر ما يحزنني وأنا أسير مع سائق تاكسي في إحدى الدول الإسلامية وأجد أنه يتوق إلى أن يفهم القرآن لا مجرد أن يردده كصوت ويقرأه كحروف، وجدت خلال جولاتي الكثيرة أن الابتعاد عن العربية أدى إلى انحرافات في العقيدة وفي ممارسة الشعائر وفي الفهم العام للإسلام. لكن السؤال المحير هو لماذا اتخذ المسلمون من الشعوب غير العربية قراراً بالتخلي عن لغة دينهم رغم أن كثيراً منهم أبدعوا فيها وساهموا في تطورها؟ فتش، عزيزي القارئ، عن السياسة والانتماءات الزائفة، قد تجد بعض الإجابات بين ثناياها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد