: آخر تحديث

تخليق المستقبل

18
17
20
مواضيع ذات صلة

التخلص من تبعات الماضي وفروضه التي تهيمن على إرادة التغيير وتشل العقل توجب التفكير بأسلوب مختلف، ويتطلب التفكير في التراث الموازي، الذي عرفناه في كثير من المناسبات على أنه تراث المستقبل، التأكد من محركات التجديد، فلا يمكن أن يحدث أي تجديد دون وجود بيئة تدعم الأفكار الجديدة، وبالتالي إذا ما أردنا أن ننقل نظرية التراث الموازي إلى الممارسة المهنية يجب أن نشخص حالة الإنتاج، الفكري والتصنيعي، كروافد تدفع بالأفكار الجديدة وتضعها في مختبر التجربة وتتأكد من جدواها وقدرتها على التفاعل مع متطلبات الحياة في فترة زمنية محددة. على أننا نواجه مأزقا حقيقيا ممثلا في أمرين، الأول: هيمنة الصورة التاريخية الساكنة ومن ناحية أخرى ضعف آليات الإنتاج بشكل عام، مما يجعلنا أمام تحد كبير.

في المقابل يعيش العالم المعاصر ثورة تقنية متسارعة تجعل من التحولات الإنتاجية متسارعة جدا يصعب ملاحقتها. إنها تحولات تؤكد مبدأ الثبات النسبي للأشكال والأفكار، وهو الأمر الذي يعني أننا بحاجة إلى فتح قنوات جديدة تجعلنا نواكب هذا المتغيرات. يصاحب هذا، تطور رقمي مواز يسمح للمهتمين بالتكيف مع هذه المستجدات التي لم يواجهها الإنسان من قبل بهذا التسارع المذهل. ولعل شعار "الشكل يتبع التقنية" وظهور ما يسمى بالأشكال السائلة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين دفعت المهتمين إلى التفكير الجاد في إيجاد أطر عملية تمكنهم من التعامل أو ما يمكن أن نسميه "تهدئة تدفق الأفكار" وهذا التسارع التقني الذي أصبح يتجدد كل بضع سنوات، وبالتالي ما لم تكن هذه الأطر مبنية على دراسات علمية رصينة فإن القدرة على التعامل، ولن أقول السيطرة على التقنيات الجديدة وتوظيفها في الفنون والتصميم، ستصبح شبه مستحيلة. إننا أمام تحديات حقيقية تقع على عاتق المتخصصين ويتحمل مسؤوليتها المهتمين بالتعليم والبحث العلمي.

لا يمكن أن يتطور الإنتاج دون فكر حقيقي نابع من البيئة المحلية، فمن ينادي باستيراد التقنية مثلاً يغفل في أحيان كثيرة أهمية وجود البيئة الفكرية الخصبة لتقبل هذه التقنية وتبنيها. نجد هذا في المثال الكوري على وجه الخصوص، فالتحول يبدأ على مستوى البنى الفكرية قبل التفكير في نقل التقنية وتطوير آليات إنتاج وإلا ستبقى هذه الآليات غريبة ومنفصلة عن المجتمع. التجديد، كما يشير له التراث المادي ليس على المستوى المادي فقط بل يركز أكثر على أساليب التفكير، فعندما تتجدد هذه الأساليب فيمكن في هذه الحالة تطوير أساليب إنتاج جديدة. بل يمكن خلق قيم وأساليب حياة جديدة ليست بالضرورة أن تكون تطورا عن القيم والأساليب السابقة. على أن مثل هذه التصورات غالبا ما تثير جدل وتواجه مقاومة اجتماعية حادة.

لعلنا بدأنا نعي أن حياتنا المعاصرة ومنطق التطور الذي يحكمها لم يعد يقبل بالمناهج والأدوات التقليدية، فتوجهات المستقبل القريب ستتوق إلى غير المتوقع الملفت الذي يثير التساؤل، وهذا يتطلب بذل المزيد من الجهد في إعادة التفكير في إعداد أجيال من مفكري المستقبل وتزويدهم بمهارات جديدة وغير مسبوقة. تكمن البداية في قدرة المؤسسات التعليمية على بناء هذه المهارات لدى طلابها. ثمة اتفاق على أن أساليب التعليم وما يرتبط بها من آليات تفكير لا تتطور إلا من خلال وجود فلسفة مغايرة كليا لما هو سائد في الوقت الراهن يتيح الفرصة لتراكم معرفة وقيم جديدة.

ولو حاولنا أن نعمل مقاربة نقدية لما يمكن أن تتيحه مجالات الربط بين التفكير والإنتاج من مجالات إبداعية مبتكرة تكسر حدة التكرار والخروج من دائرة الانغماس في التدوير، سوف نجد أن الآفاق المستقبلية التي يمكن أن يدفع بها البحث العلمي في هذا المجال ستنعكس على المناخ المهني الراكد على المستوى العربي، ويمكن أن يحرره من قيود الإعاقة التقنية التي يشعر بها كثير من المفكرين والمنتجين العرب في الوقت المعاصر. وإذا ما اتفقنا أن الابتكار يعني الخروج عما هو سائد، لذلك فهو يتطلب وجود روافد تعين على التفكير بشكل مختلف. لن أقول إن هذه مهمة سهلة، ولكن مجرد التفكير في بناء منظومة معرفية تتبّع مواطن الابتكار، يمكن أن يكون بداية لكسر الطوق الذي وجدنا أنفسنا مكبّلين به.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.