: آخر تحديث

أزمة الطاقة العالمية تُهدد السّلام الأوروبي

22
19
19
مواضيع ذات صلة

الإحساس بالمهانة والهوان، والشُعور بالذُل والخُضوع، والوعي بالانكسار والرضوخ والهزيمة، واليقين بالضعف والانقياد والحاجة، عناصر ترسَّخت في أعماق الذاكرة التاريخية الأوربية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) وما نتج عنها من اتفاقيات ومعاهدات مُهينة للدول المهزومة (فرساي، وسان جرمان، وتريانون، ونويي، وسيفر). وازدادت هذه العناصر ترسُّخاً أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) وما فرضته من سياسات استقطابية صارمة خلال الحرب الباردة (1945-1991م) بين القطبين الرئيسيين – الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي.

وهذه الأحاسيس والمشاعر المُؤلِمة، وذلك الوعي واليقين بالعَجز والخُنوع، تجدد -في وقتنا الراهن- مع توقف إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، لتتجدد معها الآلام والجروح والمآسي النَّفسية العظيمة التي عانت منها أوروبا وشعوبها منذ العشرينات من القرن العشرين. وهذه الآلام والجروح والمآسي تتضاعف كثيراً لدى الشعوب الأوروبية عندما تعلم بأن هذا التوقف في إمدادات الطاقة الروسية -أو عدم شراء النفط والغاز من روسيا- إنما جاء تنفيذاً لسياسات صارمة ومطالب مُباشرة من الولايات المُتحدة لجميع دول الاتحاد الأوروبي سعياً لمُعاقبة روسيا على صراعها المُسلح مع أوكرانيا (مُنذُ فبراير 2022م).

نعم، لقد وجدت الشعوب الأوروبية نفسها تعيش الحاضر المُهين بذكريات الماضي البائس داخل أوروبا، وظروفه واحداثه المُؤلِمة اللاحقة التي فرضت عليها التبعية المُطلقة للخارج حتى أصبحت تابعة ومُنقادة ومُنفِذة للسياسات الدولية والعالمية وإن كان ذلك كله على حساب مصالحها الأساسية، وتوجهاتها السياسية، ورفاهية شعبها. نعم، لقد وجد الأوروبيون أنفسهم أمام خيار واحد لا بديل عنه وهو ذلك المتمثل بالتقيد التام بالسياسات الأميركية تجاه حظر مصادر الطاقة من روسيا حتى وأن لم تتوفر البدائل السريعة والعروض المجزية والأسعار المناسبة.

إنه أمر صعب ومُذل في نفس الوقت، حيث التبعية الأوروبية للولايات المتحدة تظهر وتتجلى في أبهى صورها، إلا أن الأكثر صعوبة وإذلالا هو أن يفرض على أوروبا تعويض مصادر الطاقة الروسية بمصادر الطاقة البديلة القادمة من الولايات المتحدة بأسعار مضاعفة عما كانت تستورده أوروبا من روسيا. وأمام هذه الفروق الكبيرة بأسعار الطاقة البديلة، وجدت الشعوب الأوروبية نفسها أمام تكلفة معيشية مرتفعة عما كانت معتادة عليه، وأمام واقع سياسي يفرض عليها تعديل سياساتها الداخلية والخارجية بما يتناسب ويتماشى مع حركة السياسة الدولية وتحدياتها الجديدة والمتصاعدة. إنها حالة سياسية صعبة تعيشها أوروبا للمرة الأولى مُنذ نهاية الحرب الباردة وغياب التهديدات العالمية، إلا أنها حالة سياسية كشفت للشعوب الأوروبية حالة الضعف والوهن والتبعية السياسية المُطلقة التي تعيشها أوروبا، وفضحت مدى هشاشة وبساطة وسذاجة السياسات الأوروبية القائمة مُنذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إنها الحقيقة الصعبة والمؤلمة التي تعيشها الشعوب الأوروبية خلال الأشهر القليلة الماضية حيث أيقظت في قلوبهم وعقولهم ذكرى الماضي البائس، ومآسي الأحداث التاريخية الجِسام التي مرت بها الشعوب الأوروبية.

وأمام هذه الحقائق الصعبة والمُهينة والمُؤلمة الناتجة عن أزمة الطاقة العالمية التي تسبب بها حظر مصادر الطاقة الروسية، تجد الشعوب الأوروبية نفسها أمام حالة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية وعسكرية صعبة جداً تفرِض عليهم العمل لتعزيز استقلالهم وبناء اقتصاداتهم وحماية أنفسهم بأيديهم إن أرادوا محو آثار الماضي البائس والخروج من ذُل ومهانة التبعية السياسية الأوروبية للخارج حيث لا بديل لذلك، إلا البقاء فيما كان قائماً من ذُل ومهانة وتبعية. فإن كانت الشعوب الأوروبية ذاهبة لذلك الاتجاه رغبة في الانفكاك من التبعية المُهينة، فهل يمكن القول بأن أزمة الطاقة العالمية تُهديد السَّلام الأوروبي والوحدة الأوروبية؟

إن الإجابة المُباشرة عن هذا التساؤل المُعقد والمُركب هي "نعم"، إلا أن هذه الـ "نعم" لن تتمثل حقيقة قائمة في الوقت الراهن، وإنما ستكون واقعاً حقيقياً وظاهراً على المديين المُتوسط والبعيد. وهذه الإجابة المُباشرة ليست مبنية على الرغبات والأمنيات والتكهنات، وإنما بُنيت على الحقائق القائمة والاحداث التاريخية المثبتة، إن من يشاهد الحراك السياسي والحزبي والشعبي النشط على الساحة الأوروبية الممتدة، ومن يرى الحراك الاجتماعي والثقافي والديني المُطالب بتعزيز الهوية الأوروبية في معظم الأقاليم والمناطق الأوروبية، ومن يلاحظ تصاعد وتسارع التوجهات العرقية لدى الأجيال الأوروبية الشابة، ومن يدرك حقيقة توجهات واتجاهات الرأي العام الأوروبي -خاصة خلال أزمة الطاقة العالمية-، حتماً سيصل للنتيجة القائلة بأن أوروبا متجهة نحو المستقبل المجهول سياسياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً وعسكرياً.

إن أوروبا اليوم التي تشهد أزمة سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية واجتماعية حانقة، لأسباب أهمها أزمة الطاقة المُفتعلة والمفروضة عليها، ليست إلا أوروبا القرن العشرين التي شهدت صِراعات وحروب عظيمة تسببت بها الصراعات العرقية، والتعديات السياسية، والتجاوزات الدبلوماسية، والرغبة في المحافظة على الكرامة الإنسانية. نعم، إن أوروبا اليوم التي تشهد تصاعداً كبيراً في التوجهات القومية والعرقية، ومطالب شعبية قوية بالمحافظة على الهوية الأوروبية المسيحية، ومُناداة حِزبية متصاعدة بتعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري؛ هي نفسها أوروبا الحرب العالمية الأولى، وأوروبا الحرب العالمية الثانية، وأوروبا الحرب الباردة، التي شهدت على مدى عقود متتالية صِراعات عظيمة على أساس العرق والقومية والهوية والنفوذ والهيمنة السياسية العالمية. إن أوروبا اليوم التي تشهد تصاعداً متسارعاً للأحزاب والتيارات والتوجهات والسياسات اليمينية المُطالبة والمُنادية بتعزيز المكانة والقدرة والهوية الأوروبية والمسيحية في جميع المجالات وعلى كل المستويات المناطقية والإقليمية والقارية، هي نفسها أوروبا التي أنتجت الأحزاب اليمينية المُتشددة والمُتطرفة والعنصرية التي تسببت بحروب عظيمة تدمرت بسببها القارة الأوروبية سياسياً واقتصادياً وصناعياً واجتماعياً وسكانياً وأمنياً وعسكرياً وسُفكت خلالها عشرات الملايين من الأنفس البريئة.

وفي الختام من الأهمية القول إن أزمة الطاقة العالمية -المفروضة على أوروبا- وتبعاتها السلبية المُتعددة، ستكون الوقود الذي يُعزِز ويُدعِّم مكانة وقدرة الأحزاب اليمينية المُتطرِفة سياسياً ومادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً وعسكرياً مما يُمكنها من قيادة المجتمعات الأوروبية بالطريقة والِأسلوب والسلوك المتوافق مع توجهاتها الاقصائية والعدائية المزعزعة للاستقرار والمتناقضة مع السلام والاعتدال والوسطية.

إن أزمة الطاقة العالمية تتجه بأوروبا نحو تصاعد حالة الانقسامات الداخلية على أُسس عرقية وقومية ومادية واجتماعية وثقافية ومذهبية ودينية مما يُنذر بتفكك الوحدة الأوروبية، ويُهدد السلام القائم في القارة الأوروبية مُنذُ الحرب العالمية الثانية. إن مستقبل القارة الأوروبية أصبح مرهوناً للأحزاب اليمينية المُتطرفة والمُتشددة التي وجدت في أزمة الطاقة العالمية الفرصة السانحة والمواتية لتجييش الأجيال الشابة، واستقطاب مزيد من المؤيدين، لتنفيذ سياستها ذات التوجهات الأحادية غير المؤمنة بالعيش المشترك بين الثقافات والحضارات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.