: آخر تحديث

الحرب أداة في خدمة المصالح الاقتصادية

55
58
47
مواضيع ذات صلة

الصراع سلوك حيواني يتربع الانسان فيه على العرش في قمة الهرم، هرم الصراعات، للصراع هيكل هرمي يتدرج من القمة، حيث يتربع الانسان سيد الصراعات من حيث المدى والقسوة والعنف، مروراً ببقية الحيوانات وصولاً الى الطيور والحمام حيث يقل الصراع وتخف شدته وتتلطف قسوته، ولا ندري ما هو مدى الصراع وحدته بين الحشرات والديدان، اذ لا شك ان هناك نمطًا من الصراع؛ لأن الصراع مغروس في بيولوجيا الوجود بفعل الاختيار الطبيعي الذي يجمع بين النقيضين، والذي بفضله نشأت البيولوجيا، بجميع أجناسها وأخذت مسار الارتقاء الحتمي. الصراع بحد ذاته لا علاقة للاخلاق به وإنما الجانب الاخلاقي يبرز من الكيفية التي تتطور في بنية الصراع ويدار الصراع بها. المسألة الاخلاقية مرتبطة بحدة الصراع وشدته وقسوته و ليس بطبيعته ولا بمداه. الصراع، في دائرة الانسان وليس بقية الكائنات الحية، يتطور مع الزمن في الكيفية ويخلق قضية اخلاقية خانقة قد تنهي الصراع بنهاية الانسان نفسه. 

الصراع، في كيفيته، يتدرج بين التنافس السلمي والتناحر العدائي، بالنسبة للانسان فإن التناحر العدائي هو السمة السائدة في العلاقات بين الناس فيما يخص المصالح التي رسموها وحددوها لأنفسهم، وهذه المصالح تتناسب طردياً مع قوة النزعة الانانية عند الانسان، فكلما قويت النزعة الانانية كلما تمادى الانسان في اعتدائه على حق الآخر والذي يضعه في دائرة مصالحه الخاصة وحتى الشرعية، الشرعية الانانية وليست الشرعية الاجتماعية المتفق عليها في البنية المجتمعية. 

الأنا والآخر ثنائي طبيعي، والتنافس السلمي بينهما امر طبيعي، ولكن عندما تتطور الأنا الى ذات أنانية فإن الصراع ينتقل من التنافس الى الاقتتال… 

لنزيح الستار عن مسرح الصراع الاقتتالي (الحربي) في عصرنا الحاضر، دون حاجة الى المرور عبر دهاليز الماضي وتفاصيله المعروفة والمغيضة، لأن الماضي الحربي هو أساس الحاضر الحربي وعلى مسار ارتقائي في العنف والقسوة والحجم والمساحة. قبس ضروري من الماضي يفيد بأن الاقتتال حينه كان وجهاً لوجه، والمقاتل الشجاع المغوار ما كان بمقدوره أن يقتل في اليوم الواحد أكثر من عشرة الى عشرين شخصًا، بينما اليوم انسان هزيل ضعيف وجبان بإمكانه أن يبيد مدينة كاملة بكامل سكانها بضغط على زر وهو على مسافة ألوف الكيلومترات عن المدينة المنكوبة، وكأنه في غرفة نومه وفي حضنه جهاز اللعب الالكتروني - الرقمي ... بضغطة زر يبيد مدينة كاملة وتأسره غفوة النوم ويضع رأسه على المخدة ويغيب عن الوعي في سبات عميق وهو مرتاح البال في غفلة من الضمير، هذا النمط من الاقتتال، من وجه لوجه، غائب اليوم وبعيد عن مسرح الضحايا... فكلما زادت المسافة بين الجاني والضحية كلما قلَّ وهج الضمير عند الجاني.

المصالح الاقتصادية هي بذرة الصراع، والذات الانانية هي التي أفرزت كيفية الاقتتال من أجل تأمين المصالح الاقتصادية، وحولت معاني المصالح الاقتصادية من شرعية (تنافسية) الى غير شرعية (تناحرية) ... وغير الشرعية تتضمن جميع الغزوات والحروب، بأنواعها ومبرراتها ورسائلها، وهي في أساسها وضع اليد على حقوق الغير. 

حروب العصر هي نمط متطور عن الغزوات في العصور الماضية، من الامبراطوريات القديمة مروراً بالتوسع الاستعماري الغربي وصولاً الى عصرنا الحاضر، حيث تتربع روما العصر الحاضر (امريكا) على عرش الحروب وانتهاك حقوق الانسان المادية (ثروات الشعوب) والمعنوية (كرامة الشعوب). هذا النمط العصري من الحروب اقتضى تشكيل تحالفات عسكرية مطعمة بتعاون اقتصادي حذر لا يمس المصالح الانانية العليا. إدارة الحروب تحت سقف التحالفات تختلف نوعياً عن إدارة الاقتصاد تحت سقف التعاون الحذر.

إدارة الحروب وأهدافها تسمح للتحالف بين الدول، بينما إدارة الاقتصاد وأهدافه لا تسمح لأي تحالف، قد تساهم في تعاون اقتصادي مؤقت، لكن المصالح الذاتية تطغى في جميع الحالات على التحالف العسكري والتعاون الاقتصادي ... عندما يصل الصراع الاقتصادي بين حلفاء العسكر الى نقطة تضارب المصالح فإن الحرب الاقتصادية بينهم تصبح لها الأولوية وتبيحها الانانية الذاتية على أي شكل من أشكال التحالف والتعاون... «نفسي ومن ثم نفسي» وليذهب الآخرون الى الجحيم، ومع تصاعد تناقض المصالح الاقتصادية فإن مواجهة عسكرية، بين حرب محدودة وحرب مفتوحة، قد تندلع بين الحلفاء العسكريين ... امريكا وبريطانيا واستراليا شكلت تحالفاً عسكرياً - اقتصادياً بينها بحجة مواجهة الصين، وهذا هو نصف «الحقيقة المهمة»، و لكن النصف الآخر وهو «الحقيقة الاهم» هو مواجهة فرنسا في حرب اقتصادية شبه مفتوحة.. فرنسا حققت انتصاراً اقتصادياً في صفقة الغواصات مع استراليا، ولكن الحليف الامريكي وقف بالمرصاد أمام هذه الصفقة وعملت على إفشالها من أجل مصلحتها الذاتية على حساب حليفتها العسكرية فرنسا... 

الحرب الاقتصادية والحرب العسكرية في وحدتها تشخص طبيعة الراسمالية الامريكية السائدة... الرأسمالية الامريكية أدمنت على الحرب بأشكالها، وقد تمرست في فنون الحرب، وهي تقود الحروب وتثيرها وتحدد وجهتها وتديرها من أجل محصلة واحدة وهي التربع على عرش الرأسمالية في العالم، والحرب الاقتصادية هي التي تقود الحرب العسكرية، والحرب الاقتصادية هي التي تضمن وتامن المصالح الذاتية... 

وهذا ينقلنا الى نقطة حرجة بين الحرب الاقتصادية والحرب العسكرية من ناحية العلاقة بين امريكا والدول الحليفة لها في الحلف العسكري الناتو... امريكا، زعيمة حلف الناتو، فتحت حرباً اقتصادية مكشوفة ضد حليفتها فرنسا، وهذا الحلف العسكري لم يردع الحرب الاقتصادية بين حلفاء العسكر… 

من المعاني التي نستخلصها من هذه الحرب الاقتصادية هو أن الحلف العسكري لا يرقى الى رتبة المصالح الاقتصادية، فالدخول في حلف عسكري لا يسد باب الحرب الاقتصادية بين الحلفاء من أجل تأمين المصالح الذاتية.

الحروب وتحالفاتها العسكرية ونتائجها الكارثية، والاقتصاد بين دفتي الادارة الذاتية المطلقة والتعاون الحذر والمربك، وضعتا الانسان بآماله الحضارية الراقية أمام امتحان الاخلاق، الى اليوم ومنذ ألوف السنين والانسان فاشل أمام هذا الامتحان، وهذا الفشل خلق قضية أخلاقية مخزية تشخص طبيعة الحضارات عند الانسان، فمازالت بنية الحضارة من الماضي الى الحاضر موبوءة بمرض أخلاقي مميت. 

القضية الأخلاقية، التي خلقتها كيفية إدارة وتداول الصراع، هي النقطة الحرجة بين التنافس والاقتتال، بين السلم والحرب ... القضية الاخلاقية تقتضي معالجة الكيفية التي تدار بها الصراع، و ليس الصراع في طبيعته، لأن الصراع، بشكله التنافسي والسلمي، ملازم للثنائي الانساني «ألانا والغير»... فهل طبيعة الانسان بمكونه المكتسب والمغروس في أعماق لاوعيه يمكن أن ترشده وتهديه في يوم من الايام المقبلة، بمعنى أن تجعله مؤهلاً بفاعلية، لحل القضية الاخلاقية التي هي لصيقة به منذ ألوف السنين؟.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد