إيلاف من الرباط : في كتابه الجديد "المغرب في الصحافة العربية قضايا ومواقف"، الصادر حديثا عن منشورات الموجة الثقافية، يسلط الدكتور مصطفى الريس، الباحث المتخصص في تاريخ المغرب المعاصر، الضوء على الصحافة العربية والمغربية مع جملة من الأحداث الحاسمة والمفصلية من تاريخ المغرب المعاصر مطلع القرن العشرين، في مجهود بحثي متميّز يهدف إلى إثراء النقاش حول توظيف الصحافة في الكتابة التاريخية.
يتكون الكتاب من ست دراسات تتناول وقائع وأحداثا من تاريخ المغرب المعاصر بين عام1907، وفرض الاحتلال على المغرب بالقوة العسكرية المسلحة، وعام 1955 ومفاوضات إكس ليبان وعودة السلطان محمد بن يوسف إلى عرش المغرب، وتشكيل حكومة مبارك البكاي الأولى، وذلك من خلال متون صحفية عربية مصرية وفلسطينية ومغربية تتباين من حيث السياق التاريخي لنشأتها، ومن حيث خطها التحريري وتوجهها السياسي.
للكاتب الريس اهتمام أكاديمي عميق العميق بقضية العلاقة بين الصحافة والتاريخ، وحدود التلاقي والتنافر بين هذين الحقلين المعرفيين، فبين معسكر من الرأي يقول بارتباط المؤرخ بالماضي، وأخر يقول بأن الحاضر يبقى الهمّ الأكبر والأكثر راهنية بالنسبة للصحفي، وهو ما يفضي بالضرورة، حسب رأيه، إلى نقاشات حول قضايا جوهرية ملحة في عصر الإعلام الجديد ليس أقلها التعتيم الإعلامي والأخبار الزائفة والرقابة وهامش حرية التعبير والاعتبارات الذاتية، مما قد يلقي بظلال من الشك على قدرة الصحفي على التنقيب في جذور الظواهر والأحداث التاريخية حسب الرأي الأول.
لكن الرأي الثاني الذي يبدو أن الريس ينتصر له، ينبري لذلك ويدفع بوجود جسور من التقاطع والتكامل بين الصحافة والمؤرخ "بين الآني والبنيوي، بين المواد الصحافية والكتابة التاريخية" ذلك أن الصحافة تُعدّ، من حيث تطورها، الأكثر ارتباطا بالحالة السياسية والوضعية الاقتصادية والتنظيم الاجتماعي والمستوى الثقافي للأمم والدول، كما يقول الكاتب، الذي يصر على أن جسور التكامل بين الصحفي والمؤرخ تتمثل في أن عمل كليهما ينصب على التحري في الأخبار والوقائع، فالصحفي قد يصبح أقرب إلى صنعة المؤرخ، بل يكاد يكون مؤرخ اللحظة وهو يسعى إلى الإمساك بالحدث أو الخبر في راهنيته، والمؤرخ هو صحفيَ الماضي الذي يظل هاجسه الأول دراسة الإنسان في الزمن، بغض النظر عن جدلية الذاتي و الموضوعي.
تتناول الدراسة الأولى من الكتاب مدى اهتمام مجلة "العمران" بالشأن المغربي برصدها لمظاهر التغلغل الأوربي وللأوضاع الداخلية الحرجة التي مهدت لفرض الحماية الأجنبية. بينما تتطرق الدراسة الثانية إلى "السياسة الإسلامية الفرنسية" التي وظفت في التغلغل الاستعماري سلميا بدغدغة مشاعر المغاربة وعواطفهم الدينية في القبول بالوجود الاستعماري، والتستر عن ما كانت قوى الاستعمار ترتكبه من مجازر في حق شعوب مستعمراتها الإسلامية.
وكانت جريدة "السعادة"، لسان حال الإقامة العامة، من الأدوات التي سخرتها فرنسا في الترويج لسياستها الإسلامية، ومخاطبة المسلمين بلغة الضاد.
أما الدراسة الثالثة فانصبت على الوضع السياسي بالمغرب خلال عقد الثلاثينيات من القرن العشرين من خلال جريدة "الدفاع" التي تعد من أكثر الجرائد الفلسطينية متابعة وتغطية لمجريات الأحداث والوقائع بالمغرب، حيث تطرقت للسياسة الاستيطانية الفرنسية ومطالب الحركة الوطنية بالإصلاح والسياسة البربرية الفرنسية، وتجنيد المغاربة في جيش الجنرال فرانسيسكو فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، كما رصدت بالتفصيل مظاهر الدعاية النازية في المغرب.
في الدراسة الرابعة يعرض المؤلف للأزمة السياسية الأولى بين الإقامة العامة الفرنسية والقصر في أعمدة الجرائد المصرية وهي الأهرام والمصري والمقطم، وكيف جعلتها بتغطياتها قضية قومية تستحق الاهتمام برصد سياقها التاريخي وتداعياتها هذه الأزمة على مستقبل العلاقات الفرنسية-المغربية.
أما الدراسة الخامسة فتناولت إسهام جريدة "الوداد" في تجديد اهتمام دوائر الحماية الفرنسية بالزوايا والطرق استجابة لرغبة الإقامة العامة في إعادة التفكير في علاقتها مع شيوخ الزوايا والطرق الصوفية والاستعانة بهم في تعزيز نفوذها، بينما تناولت الدراسة السادسة ما نشرته جريدة "القيامة" الموالية للإدارة الاستعمارية الفرنسية من مواد صحفية مشحونة بمعاني الكراهية والإقصاء والتحريض على العنف والاستهجان والتحقير والسب الذي طال السلطان محمد بن يوسف وزعماء الحركة الوطنية أواخر فترة الحماية الفرنسية .
يعزو الكاتب ندرة الأبحاث الأكاديمية في المغرب بخصوص علاقة الصحافة بالتاريخ إلى ملابسات السياق التاريخي التي نشأت فيه الصحافة في المغرب، وصعوبة الوصول إلى المصادر الصحفية في غياب مركز خاص بالتوثيق والأرشيف الصحفي، ويقول إنه يريد لعمله البحثي أن يكون حافزا للباحثين أن يلتفتوا للمصادر الصحفية ويوظفوها في دراسة جوانب تاريخ المغرب المعاصر متمكّنين من الآليات المنهجية اللازمة للتعامل مع هذا النوع من المصادر وغزارة مخزونها دون التفريط في المنهج التاريخي.