بات واضحاً لكل مراقب ومتابع للشأن العراقي أن هناك لعبة شد الحبل وتصعيد وتفاقم لأزمة سياسية تهدد بالانفجار. فجماعة الإطار التنسيقي، ومعها الفصائل المسلحة غير المرخص لها قانونياً والمنضوية تحت عباءة الحشد الشعبي وتمتلك من السلاح المنفلت ما يهدد كيان الدولة العراقية برمته، يعيشون في أوهامهم في أبراجهم العاجية لأنهم يملكون السلطة الحقيقية ويسيرون البلد حسبما يشاؤون منذ تسعة عشر عاماً ولم يقدموا سوى فشلهم وفسادهم وسرقاتهم ونهبهم للمال العام وهدرهم لثروات العراق وتخريب البنى التحتية وانعدام الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن. وتمسكهم بعرف المكونات والكتلة الاجتماعية الأكبر والتوافقات والمحاصصة الطائفية المقيتة والمدمرة للبلد وللشعب لأنها ترنو إلى إنهاء شعور المواطنة والانتماء للوطن. وهاهم اليوم يواصلون غيهم وتعجرفهم واستفزازاتهم التي قادت العراق إلى شفا حرب أهلية طاحنة تأكل الأخضر واليابس منذ خروج النتائج النهائية للانتخابات الأخيرة في أكتوبر 2021 والتي خسروا فيها لكنهم نجحوا عبر وسائل ميكيافيلية في تعطيل تشكيل حكومة الأغلبية الوطنية من قبل الفائزين في الانتخابات الذين شكلوا التحالف الثلاثي بين التيار الصدري والحزب الديموقراطي الكوردستاني وتحالف السيادة السني بقيادة محمد الحلبوس، بواسطة ما يسمى بالثلث المعطل المستورد من لبنان المحطمة. يقف في مواجهتهم التيار الصدري المتخبط والمتسرع في قراراته المزاجية والشريك لهم في تجربة الحكم الفاشلة طيلة تسعة عشر عاماً والذي لا يخلو من الفساد وهو مثلهم يمتلك ميليشيات مسلحة خطيرة متمثلة في جيش المهدي وسرايا السلام وغيرها من التسميات لكنه الفائز بامتياز في الانتخابات الأخيرة ويمتلك 73 مقعداً نيابياً ومن حقه دستوريا أن يشكل الحكومة بعيداً عن جماعة الإطار التنسيقي التي نبذتها المرجعية العليا في النجف وقالت المجرب لا يُجرّب ما أدى بالبلاد إلى الانسداد السياسي وجعله بدون حكومة كاملة الصلاحيات إذ تحولت حكومة الكاظمي المؤقتة إلى حكومة تصريف أعمال ينظر إليها الإطار التنسيقي بعين الريبة ويعاديها ويريد إسقاطها بأي ثمن لأنه يتهمها بأنها ذات ميول صدرية والجدير بالذكر أن مصطفى الكاظمي رغم فشله على صعيد السياسة الداخلية إلا أنه مازال يأمل إعادة تكليفه بمرحلة انتقالية إضافية لعامين قادمين بصلاحيات أكبر لتنظيم انتخابات جديدة مبكرة نزيهة ومستقلة كما نجح في تنظيم الانتخابات السابقة الأخيرة، وهو يلعب على التناقضات بين الإطار والتيار وجزء من التشرينيين الذي انضموا إلى كابينته الحكومية كمستشارين، وجزء آخر انسلخ من تشرين ودخل الانتخابات بصفة المستقلين ولم يحقق شيئاً يذكر من أهداف تشرين ومطالبها المشروعة. أما التشرينيون الأصلاء فقد انقسموا على أنفسهم ومايزالون يبحثون عن قيادة موحدة تقودهم إلى بر الأمان فهم بين اللجنة المركزية وجماعة التحرير ومجموعة النواب المستقلين الذي يدعون تمثيلهم لتشرين وفئة استقطبتها حكومة الكاظمي واستغلتها باسم تشرين لا يعرفون كيفية تحقيق أهدافهم ومطالبهم المشروعة وكنس الطغمة السياسية الحاكمة.
تغيرت المعادلة السياسية وبرزت معطيات جديدة على الساحة السياسية بعد انسحاب واستقالة النواب الصدريين وخروجهم من البرلمان والذي وضع حلفائهم في تحالف إنقاذ وطن في وضع محرج ولا أحد يعرف أسباب هذا الموقف الجنوني الانتحاري الذي اتخذه الصدر في حالة غضب والمثل يقول غلطة الشاطر بألف وهي هنا بمليون أو أكثر لأنه وفر لخصمه وعدوه اللدود الإطار التنسيقي التابع لإيران الفرصة القانونية والدستورية لكي يصبح هو صاحب الأغلبية البرلمانية ومن حقه تشكيل الحكومة وتسمية رئيس الوزراء. وفي ظل هذا التجاذب وانعدام الثقة بين الطرفين، الإطار والتيار، وتوعد أحدهما للآخر بالعقاب والتصفية وتجريدة ميليشياته من السلاح وتصفيتهم بحجة محاربة الفساد أصبح الوضع متوتراً ولا يحتاج سوى لشرارة لتفجيره. الإطار يمعن في تحدياته واستفزازاته وهو اليوم يلوح بتشكيل تحالف جديدة أسماه إئتلاف إدارة الدولة ويضم الإطاريين والاتحاد الوطني الكوردستاني ومجموعة تقدم السنية المنشقة عن السيادة وتحالف السيادة نفسه بزعامة الحلبوسي والحزب الديموقراطي الكوردستاني بزعامة مسعود برزاني واستبعاد الصدر بحجة إنه لايريد الاشتراك معهم في تشكيل الحكومة، وبالتالي هم يدعون أن بإمكانهم توفير النصاب القانوني لعقد جلسة البرلمان لاختيار رئيس الجمهورية الكوردي القادم بعد توافق الحزبين الكورديين الكبيرين على مرشح مشترك، والطلب من الرئيس الجديد تسمية مرشحهم لمنصب رئاسة الوزراء وهو محمد شياع السوداني، وهم غير مهتمين أو واعين لخطورة ردة الفعل الصدرية التي قد تؤجج الشارع وتجره إلى ما لا يحمد عقباه.
فنوري المالكي يغرد بعنجهية "إن سفينة إئتلاف إدارة الدولة أبحرت" وسيشكل الحكومة شاء من شاء وأبى من أبى. وهي تعالي وتجاهل واحتقار للشعب ومطالبه بتغيير المنظومة السياسية الفاشلة والفاسدة برمتها واستفزاز للصدر وأتباعه وكأنهم رقم غير مهم في الساحة السياسية. الشعب العراقي يترقب بقلق ومعه المحيط الإقليمي والدولي، تطورات الوضع العراقي في الأيام القادمة. ففي يوم 28 سبتمبر الجاري من المتوقع صدور قرار من المحكمة الدستورية العليا بشرعية أو عدم شرعية وبطلان استقالة النواب الصدريين لأنها لم توقع من قبل نواب المجلس ولم تخضع للنقاش والمصادقة وبالتالي فهي غير دستورية ما يعني إمكانية استعادة الصدريين لكراسيهم النيابية وتغيير المعادلة السياسية من جديد وسحب البساط من تحت أقدام الإطاريين وإعادة الحياة لائتلاف إنقاذ وطن لكن المشكلة تكمن في تعنت الصدر نفس ورفضه لعودة نوابه لقبة البرلمان وسيندم على ذلك كندمه على قراره المتهور باستقالة نوابه وخروجهم من البرلمان ولن ينفعه الندم بعد ذلك لذلك يتعين على حليفيه وبعض المؤثرين عليه نصحه بقبول عودتهم فيما لو جاء قرار المحكمة الدستورية لصالحهم. في نفس الوقت يهدد التشرينيون بتنظيم تظاهرات احتجاجية عارمة ومليونية في ذكرى انتفاضة تشرين في الأول من أكتوبر القادم في ساحتي النسور والتحرير في بغداد وباقي ساحات الاحتجاج في المحافظات والتي من المتوقع أن يواجهها الإطاريون وميليشياتهم بالحديد والنار أسوة بما يقوم به الحرس الثوري حالياً لقمع احتجاجات المجتمع المدني الإيراني المنتفض على حكومة الملالي إلا إذا هب التيار الصدري وشارك أتباعه كأفراد باعتبارهم مواطنين محرومين في هذه الاحتجاجات مما سيردع الإطاريين عن استخدام القوة المفرطة ضد التشرينيين بسبب تواجد الصدريين بينهم خوفاً من ردة فعلهم واندفاعهم لاستخدام السلام للدفاع عن أنفسهم. فحكومة عادل عبد المهدي متهمة بتسهيل عمليات القتل والقنص والخطف التي قام بها الطرف الثالث، أي الولائيين التابعين لإيران، ضد التشرينيين، الذين لم تلب مطالبهم في التغيير الجذري لكافة المنظومة السياسية الفاسدة والفاشلة برمتها فلم يحاكم أي فاسد ولا أي قاتل ولم يتم إطلاق سراح المختطفين والمغيبين ولم يجري أي تحقيق جدي لمعرفة قتلة شهداء وجرحى تشرين ومعاقبتهم وفق القانون، ولم تفي حكومة الكاظمي بوعودها للتشرينيين وهادنت الجهات السياسية والميليشياوية المتهمة بعلميات القتل والخطف والتصفية الجسدية والتعذيب للمتظاهرين العزل السلميين.
المشهد القادم سوف يكون أما مظاهرات كبيرة للتشرينيين، الذين لم تلب مطالبهم رغم الوعود من جانب الجهات المسؤولية عن الجرائم والفساد، فلم يحاكم أي فاسد بل تمدد الفساد وتضخم الفاسدين، ولم يلق القبض على أي مجرم أو قاتل ويقدم للمحاكمة، ولحد الآن لم يعلن عن وجود مختطفين ومغيبين أو إطلاق سراحهم، ولم يجري أي تحقيق جدي لمعرفة قتلة شهداء تشرين. وإزاء تعنت وإصرار الإطاريين بفرض محمد شياع السوداني كمرشح وحيد من شأنه أن يستفز التيار الصدري ويدفعه للمشاركة بكثافة وزخم كبيرين في التظاهرات الاحتجاجية القادمة وتأجيج الشارع كما كان الحال عند تحريكه للشارع في تظاهرات عاشوراء واحتلال مجلس النواب والاعتصام فيه ومنع عقد جلسة البرلمان الإطارية، سيبقى الانسداد السياسي مستمراً أو يحل بقوة السلاح والاقتتال الداخلي ولن ترى حكومة السيد السوداني النور وتبقى حبيسة جدران كافتيريا مجلس النواب فلن يسمح التيار الصدري ولا الشعب العراقي بالتصويت بالثقة على حكومة إطارية يرأسهم محمد شياع السوداني لأن ثمنها سيكون باهظاً.