تشير التصريحات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين في الأشهر الأخيرة، إلى أن الولايات المتحدة باتت تتعامل مع فكرة تسلح إيران نووياً كأنها أمر مفروغ منه، بحيث انتقل التركيز من منع تحقق هذا الخطر إلى تأخيره!
آخر هذه التصريحات ورد على لسان المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران روبرت مالي، الذي قال مؤخراً أن إيران على بعد أسابيع من إمتلاك مواد كافية لصناعة قنبلة نووية، معبراً عن أمله في التوصل إلى إتفاق نووي في أقرب وقت.
وذكر مالي في حوار متلفز "الوضع الذي نحن فيه اليوم بسبب قرار الإنسحاب من الإتفاق النووي، هو أن إيران باتت على بعد بضعة أسابيع فقط من إمتلاك ما يكفي من المواد الإنشطارية لصنع قنبلة نووية".
وأضاف: "إذا تمكنا من الوصول إلى إتفاق ، فذلك من شأنه أن يعيد إيران أشهر عدة إلى الوراء فيما يخص إمتلاك المواد اللازمة لصنع قنبلة"، ما يعني أن الجهود الدبلوماسية الكبيرة هذه جميعها تستهدف تأجيل التهديد النووي الإيراني وليس إنهائه أو حتى تجميده أو تأخيره لسنوات، بل مجرد أشهر عدة، وأن هذا التصريح الذي تردد من قبل كثيراً على لسان مسؤولي إدارة بايدن لم يكن يهدف لتسويق فكرة العودة للإتفاق وخطأ الإنسحاب منه للداخل الأميركي، بل إنها تعبر أساساً عن قناعة لدى هذه الإدارة تسلّم بوجود إيران نووية باعتبار ذلك أمراً منتهياً!
شخصياً، لا أرى فارق كبيراً يستحق العناء التفاوضي القائم بين أن تمتلك إيران قنبلة نووية اليوم أو غداً، فالتهديد قائم والسلوك الإيراني الإستفزازي في منطقتنا لن يتغير طالما أن هناك إدراك متبادل بوجود سلاح خطير يمكن لطهران تسريع وتيرة تصنيعه حال تعرضها لأي ضغوط خارجية، وبالتالي لا نرى أن الأمر يستحق تسخير كل هذا الجهد الدبلوماسي الأميركي من أجل الفوز بمجرد ورقة تؤخر الخطر ولا تقضي عليه، والأمر كله يبدو عبثياً ويعكس رغبة في تحقيق نصر سياسي وهمي يمكن تسويقه للناخب الأميركي لعله يسهم في انقاذ مرشحي الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.
الرابح الأكبر في مفاوضات إحياء الإتفاق النووي هو إيران بكل تأكيد، والمسألة هنا لا تقوم على تخمينات بل حقائق، لاسيما ما يتعلق بشرطها الأخير بشأن الحصول على تعويضات في حال إنسحاب أي إدارة أميركية مقبلة من الاتفاق، وهو قيد وليس شرط، ويحصّن الإتفاق عملياً من أي قرار مشابه لما فعله الرئيس السابق ترامب حين انسحب من الإتفاق عام 2018، لأن التعويضات المطلوبة ستكون بالتأكيد محسوبة بشكل دقيق من الإيرانيين.
هناك نقاط أخرى مهمة كسبتها إيران مثل كسب الوقت لمراكمة المواد الإنشطارية، بل إن قدرتها على الثبات التفاوضي وعدم تقديم تنازلات جوهرية حتى الآن يمثل بحد ذاته إنتصاراً سياسياً جديداً لها يضاف إلى ما تحقق خلال التوقيع الأساسي على الإتفاق في عام 2015. صحيح أن البيئة الدولية قد أسهمت في تعزيز الموقف التفاوضي الإيراني، ولاسيما عقب إندلاع حرب أوكرانيا، والحاجة إلى عودة النفط الإيراني للأسواق، وخصوصاً من قبل أوروبا، فضلاً عن حصول طهران على دعم صيني وروسي أقوى في مفاوضات فيينا، ولكن هذا كله لا ينفي التردد الزائد والحسابات الحذرة بشكل مبالغ فيه بالنسبة لفريق التفاوض الأمريكي، وهي حسابات ترتبت على موقف إدارة بايدن من تصعيد الضغوط على طهران أو التلويح بالقوة ضدها، حيث ظل بايدن حذراً للغاية في التلويح بـ"العصا" حتى أدركت إيران تماماً أن اللجوء للخيار العسكري ضدها مسألة مستبعدة تماماً من ذهن صانع القرار الأميركي.
لا أحد في منطقتنا يريد إندلاع حرب ولا أستخدام القوة العسكرية ضد إيران طالما إلتزمت بالقانون الدولي، ولكننا نتحدث هنا عن إستراتيجيات التفاوض الأميركية، التي لا يمكن لها أن تنجح ما لم تتكىء على أوراق تفاوضية مؤثرة، وتوازن بفاعلية وحزم بين "العصا" و"الجزرة"، وتعرف جيداً كيف تستخدم هذه أو تلك ومتى وإلى أي مدى، ولكن الحاصل أن المفاوض الأميركي قد ذهب إلى فيينا منذ البداية وهو يكاد يتسول موافقة إيران على العودة للإتفاق وحفظ ماء وجه الإدارة الحالية!
بالنسبة لدول مجلس التعاون و إسرائيل ، باعتبارها أطراف إقليمية أساسية تستشعر تهديد إيراني حقيقي، لا اعتقد أن هناك فوارق إستراتيجية بين إحياء الإتفاق النووي من عدمه، فإزاحة الخطر وتأجيله لأشهر بدلاً من اسابيع لا يسمن ولا يغني من جوع، لأن أثر الرادع النووي لا ينبع من إمتلاكه فقط أو حتى إحتمالية اللجوء إليه، بل من كيفية توظيفه واستخدامه عسكرياً في تهديد الآخرين، وإيران لا تتوانى عن هذا التوظيف السيء الذي يقوّض الأمن الإقليمي والعالمي منذ بداية صعود السلم النووي، وبالتالي فإن الخطر لن يتراجع أو يؤجل بل سيمضي في طريقه والقادم سيكون أسوأ، وخصوصاً في ظل معادلات القوة الدولية الجديدة والإستقطابات الحاصلة دولياً وحاجة أوروبا للنفط الايراني، وكذلك حاجة كل القوى الدولية المتنافسة لإستقطاب إيران التي تجيد اللعب في هذه البيئة المتوترة بما يحقق أهدافها الإستراتيجية التي لا تخفى على أحد في منطقتنا.
بلا شك فإن إلقاء إدارة بايدن اللوم على إنسحاب ترامب من الإتفاق النووي، يمثل ذريعة غير منطقية على الأقل بالنسبة لي كمراقب، لأن الإتفاق الأصلي نفسه لم يتبقى له سوى سنوات قلائل ويذهب أدراج الرياح، ناهيك عن أن مفاوضات العودة وإحياء الإتفاق استغرقت وقتاً يكاد يماثل فترة الإنسحاب خلال ولاية ترامب، التي يجب أن نلاحظ أنها لم تشهد أي إنتهاك إيراني جوهري لبنود الإتفاق، خشية تهور ترامب!
بشكل عام، من الواضح أن توقيع تفاهمات جديدة لإحياء الإتفاق النووي باتت أمراً وشيكاً، وأن الشرق الأوسط يشهد متغيراً جديداً للتفاعلات الإقليمية، وليس مستبعداً أبداً أن نشهد سعياً أميركياً أوروبياً ـ ولو بطيئاً ـ للتقارب مع إيران لأبعادها عن الدوران في فلك النفوذ الصيني والروسي، وهو ما يملي على دول مجلس التعاون التمعن جيداً فيما يدور من حولها، والمضي في خياراتها الإستراتيجية التشاركية الحالية مع كافة القوى الدولية والإقليمية باعتبار ذلك السبيل الأمثل لضمان مصالح هذه الدول وشعوبها.