كشفت نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة أن الانتخابات لا تُكسب خارج فرنسا، أي عبر وساطة من نوع التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون لتفادي اجتياح روسي لأوكرانيا. قبل كلّ شيء، فشل ماكرون في وساطته الأوكرانية بعدما فاجأ فلاديمير بوتين العالم وباشر حملة عسكريّة على أوكرانيا حولته إلى شخص منبوذ عالميا. يتحمّل بوتين مسؤولية جزء من التراجع الذي عانى منه الرئيس الفرنسي، وهو تراجع يمكن أن تكون له انعكاسات في غاية السوء عليه وعلى مستقبله السياسي.
استغلت ممثلة اليمين المتطرف مارين لوبن انشغال ماكرون بأوكرانيا كي تكثّف حملتها الانتخابية على الأرض الفرنسيّة. حقّقت نتيجة جيدة نقلتها إلى الدورة الثانية في الرابع والعشرين من نيسان – أبريل الجاري.
سيتواجه ماكرون ولوبن في الدورة الثانية بعدما نال الأوّل نسبة 27.84 في المئة من الأصوات فيما نالت لوبن نسبة 23.15. يعني ذلك بكلّ بساطة أنّ فوز ماكرون لم يعد مضمونا. على العكس من ذلك، ستكون لوبن منافسة جدّية له في الدورة الثانية، خصوصا في ظلّ عامل لا يمكن تجاهله. يتمثّل هذا العامل في حصول مرشّح اليمين المتطرّف إريك زيمور على 7 في المئة من الأصوات. ساعد زيمور الذي سيصوت مؤيدوه، بأكثريتهم الساحقة، لمصلحة لوبن في الدورة الثانية في خدمة الحملة الانتخابية لمرشحة اليمين المتطرّف التي تربطها علاقة قويّة ببوتين. نسي الفرنسيون حصول لوبن على قروض من مصارف روسيّة في حملتها الانتخابيّة للعام 2017. لم يمثل دعم الرئيس الروسي للوبن أي مشكلة في خلال حملتها الانتخابيّة الحاليّة. إضافة إلى ذلك، لم تخف مارين لوبن إعجابها ببشّار الأسد متجاهلة حربه على الشعب السوري. يفتخر الناطق باسم مارين لوبن بأنّه ذهب إلى دمشق سبع مرات في السنوات القليلة الماضية لمقابلة رئيس النظام وذلك من منطلق أنّه يحارب “إرهابيين”. صار الشعب السوري، بالنسبة إليه، مجموعة إرهابيين لا أكثر.
ما جعل مارين لوبن تستفيد من إريك زيمور أن الأخير وقف على يمينها، بل زايد عليها. وجدت أخيرا مرشحة اليمين الفرنسي من يظهرها في مظهر الشخصية المعتدلة المعقولة بالمقارنة مع زيمور الذي ذهب بعيدا في عدائه للعرب والمسلمين من منطلق عنصري أكثر من أي شيء آخر. على سبيل المثال وليس الحصر، قال زيمور إنّه سيمنع العائلات الفرنسيّة المسلمة من إطلاق اسم النبيّ محمّد على أبنائها. قال أيضا لدى سؤاله كيف سيعامل العرب والمسلمين إنّه “سيفعل كما فعل نابوليون مع اليهود”. كان نابوليون أصدر في العام 1803 قانونا يمنع العائلات الفرنسية من إطلاق أسماء غير فرنسية على أبنائها الذين ولدوا على الأرض الفرنسيّة. بقي معمولا بهذا القانون، أقلّه نظريا، حتّى العام 1993.
الأكيد أن أوروبا لا تتحمّل انقلابا في فرنسا. لكن الأكيد أيضا أن من عادة الشعب الفرنسي الانتفاض في اللحظة الأخيرة لمنع السقوط في فخّ اليمين المتطرّف
في كلّ الأحوال، قدّم زيمور وهو من عائلة ذات أصول جزائرية، كلّ الخدمات المطلوبة إلى مارين لوبن التي يمكن أن تستفيد من اندفاع اليمين الفرنسي في اتجاه المشاركة في التصويت في الدورة الثانيّة.
في المقابل، ليس ما يضمن وجود حماسة لدى الوسطيين ولدى اليسار لمنع وصول لوبن إلى قصر الإليزيه. تؤكّد ذلك المفاجأة التي أسفرت عنها نتائج الدورة الأولى في ضوء حصول مرشّح اليسار المتطرف جان لوك ميلونشون على 22 في المئة من الأصوات. تعتبر هذه النسبة مرتفعة إلى درجة كبيرة إذا أخذنا في الاعتبار البرنامج الانتخابي لميلونشون، وهو برنامج لا علاقة له بمنطق الاقتصاد المتطور والحديث من قريب أو بعيد. لا همّ لدى مرشّح اليسار المتطرّف سوى إفقار الأغنياء وتوزيع أموالهم على الفقراء الذين لا يتوجّب عليهم العمل ساعات طويلة للحصول على المال…
تكمن مشكلة ماكرون في أنّ ليس ما يضمن استفادته من أصوات اليسار أو من أولئك الذين صوتوا لمصلحة ميلونشون، بمن في ذلك عدد كبير من أبناء الجاليات العربيّة.
سيكون الرئيس الفرنسي أمام تحدّ كبير في الأيّام التي لا تزال تفصل عن موعد الدورة الثانية. هل يستطيع استلحاق نفسه وتجييش الناخبين الفرنسيين في وجه اليمين المتطرّف الذي باشر حملات تستهدف الرئيس الفرنسي؟
من بين هذه الحملات ما نشره صحافيان عن أنّ الرئيس الفرنسي يدّعي حاليا أن ثروته تقدر بنصف مليون يورو في حين معروف أنّه حصل على ما لا يقلّ عن ثلاثة ملايين يورو بين العامين 2009 و2013 عندما كان يعمل لدى “بنك روتشيلد”. يتساءل الصحافيان جان باتيست ريفوار وغوتتيي مينيه عن “الجنة الضريبية”، خارج فرنسا، التي أودع فيها ماكرون ملايينه؟
من الآن، إلى موعد الدورة الثانية، ستمارس كلّ أنواع الضربات الممنوعة في الانتخابات الفرنسيّة. لا يمكن الاستهانة بالدعم الروسي لمارين لوبن، كما لا يمكن الاستخفاف بغياب الحماسة الشعبيّة لماكرون. يثير مثل هذا الوضع الذي يجعل من اليمين المتطرّف قادرا على حكم فرنسا مخاوف في كلّ أنحاء أوروبا التي توحّدت لمواجهة فلاديمير بوتين بعد غزوه لأوكرانيا.
لا شكّ أنّ الإدارة الأميركيّة تشعر بالقلق الشديد في ضوء نتائج الدورة الأولى للانتخابات الفرنسيّة. يثير احتمال وصول مارين لوبن إلى قصر الإليزيه تساؤلات في شأن الموقف الأوروبي الموحّد من فلاديمير بوتين وما فعله في أوكرانيا. سيكون خروج فرنسا من الحلف القائم في مواجهة التدخل الروسي في أوكرانيا ضربة قويّة للولايات المتحدة وللاتحاد الأوروبي وكلّ الدول التي اتخذت موقفا واضحا من الوحشية الروسيّة.
ما على المحكّ يتجاوز فرنسا ويتجاوز شخص إيمانويل ماكرون الذي واجه فشلا في الداخل الفرنسي، خصوصا في مواجهة جائحة كوفيد – 19. كذلك، لم يكن موفقا في تدخلاته الخارجيّة، أكان ذلك في مالي أو في لبنان حيث انكشفت حدود النفوذ الفرنسي ومدى قدرة إيران على تعطيل هذا النفوذ. أكثر من ذلك، لم يستطع الرئيس الفرنسي سوى أن يكون مجرّد راع لعملية وضع “حزب الله” يده على البلد.
الأكيد أن أوروبا لا تتحمّل انقلابا في فرنسا. لكن الأكيد أيضا أن من عادة الشعب الفرنسي الانتفاض في اللحظة الأخيرة لمنع السقوط في فخّ اليمين المتطرّف. هل يفعلها هذه المرّة أم يجلس متفرّجا على تحوّل سيكون له تأثيره على أوروبا كلّها؟…