تكشف الاختناقات السياسية المتتابعة التي يعيشها العراق منذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أنه أضحى رهينة لصراع سياسي جديد لم يعتده، هو «صراع المرجعيات». فالمرجعية الدينية التي تتمثل في علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى في العراق، رغم أنها أخذت في مناسبات كثيرة أبعاداً سياسية. ليس فقط بالنسبة للمكون الشيعي العراقي بل لمجمل شعب العراق، إلا أن هذه المرجعية بقيت في الأغلب دينية، وبقيت حريصة على أن تنأى بنفسها عن صراعات القوى والأحزاب السياسية، وآخرها رفض التدخل في شأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة ومخرجاتها.
صراع المرجعيات الجديد، صراع سياسي في الأصل وتحكمه أجندات سياسية، ويمكن الاستدلال عليه، رغم حداثته، بالدور الذي يحرص أن يقوم به مقتدى الصدر كمرجعية سياسية للحكومة العراقية الجديدة التي لم تتشكل بعد، فهو، بما يملكه من أغلبية عددية في البرلمان الجديد (73 نائباً) وبنجاحه في تشكيل تحالف للحكم، أخذ اسم «التحالف الثلاثي» الذي يضم التيار الصدري و«تحالف السيادة» (السني) والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني، أدرك أنه أضحى في مقدوره أن يشكل الحكومة وأن يقود تنفيذ مشروعه الإصلاحي، من دون أن يكون طرفاً مباشراً في الحكم، ولكنه يطرح نفسه كمرجعية في إدارة البرلمان والحكومة.
حرص الصدر على أن يفرض نفسه كمرجعية سياسية للحكم العراقي الجديد هو الذي يدفعه للتمسك بأن تكون الحكومة الجديدة حكومة «أغلبية وطنية» تقتصر عليه وعلى حلفائه داخل «التحالف الثلاثي» حيث لا يوجد داخل هذا التحالف من ينافسه على هذا الدور، أما في حالة دخول أحزاب وزعامات «الإطار التنسيقي» سيصطدم الصدر بزعامات منافسة مثل نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وغيرهم، لذلك يتشبث الصدر باختياره السياسي لحكومة «الأغلبية الوطنية» ويرفض كل الوساطات التي ترمي إلى دمج «الإطار التنسيقي» في الحكومة الجديدة وعلى الأخص مشاركة المالكي.
المرجعية الثانية التي أخذت تفرض نفسها منذ سنوات على العراق هي مرجعية علي خامنئي المرشد الأعلى الإيراني من خلال ما يعرف ب «أحزاب الموالاة»أي الأحزاب والقوى والزعامات السياسية التي تدين بالولاء لإيران ولزعامة الخامنئي.
مرجعية الخامنئي كانت مرجعية معترفاً بها ضمنياً للأحزاب الموالية لإيران، وكانت تسير بموازاة غير صدامية في معظم الأحيان مع مرجعية السيستاني عند انخراطها في الشؤون السياسية، لكن مع ظهور مرجعية مقتدى الصدر، أو على الأقل، اندفاعات الصدر لفرض نفسه كمرجعية سياسية، أخذ الصدام يفرض نفسه بين المرجعيتين، وأخذ يفرض استقطاباً سياسياً حول هاتين المرجعيتين، على نحو ما ظهر في الأسابيع الأخيرة.
الصدام مع مرجعية مقتدى الصدر جاء من جانب وزير المالية في حكومة مصطفى الكاظمي، عندما تمرد على مرجعية الصدر عبر رفضه الامتثال لطلب حاكم الزاملي (من الكتلة الصدرية) نائب رئيس البرلمان الحضور إلى البرلمان لتقديم إفادته حول المطالب الشعبية بإعادة رفع سعر صرف الدينار العراقي على ضوء الارتفاعات الجديدة في أسعار النفط بعد أن كان قد تم خفض سعر صرف الدينار عام 2020. وكان مقتدى الصدر قد كتب «تغريدة» طالب فيها البرلمان باستضافة وزير المالية ومحافظ البنك المركزي لمناقشتهما حول أسعار الصرف والمشكلات المرتبطة به.
برر وزير المالية رفضه الحضور لاستدعائه من جانب نائب رئيس البرلمان استجابة لتغريدة مقتدى الصدر، وقال في رسالة بعث بها لرئيس الحكومة يبرر فيها عدم الحضور «أجد أن العملية برمتها غير مقبولة، ولا يجب السكوت عليها سواء لكرامة الحكومة أو كرامتي كوزير أو كرامتي الشخصية وكرامة عائلتي». واعتبر أن الحكومة «ليست مسؤولة أمام أي حزب سياسي.. إنها مسؤولة فقط أمام الشعب العراقي».
الصدام مع مرجعية خامنئي جاءت من جانب مقتدى الصدر نفسه، بعدما اعتبر «فتوى» من الخامنئي لحلفائه في «الإطار التنسيقي» تفرض عليهم التماسك وعدم انضمام بعض أطرافه، خصوصاً هادي العامري، زعيم «تحالف الفتح» إلى مسعى الصدر لتشكيل التحالف الحاكم الجديد. هذه الفتوى جاءت رداً على رسالة يقال إن المالكي سربها دون استشارة رفاقه إلى السيد خامنئي يطلب استشارته في شأن قبول انضمام بعض أطراف «الإطار التنسيقي» إلى مقتدى الصدر.
فتوى خامنئي أوقفت هذا المسعى، لذلك رفض الصدر كل جهود ووساطات إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس بضرورة توحيد المكون الشيعي والحيلولة دون انفراطه، وتشكيل حكومة تجمع كل الأطراف، وليست «حكومة أغلبية وطنية» كما يريد الصدر الذي وسع تمرده وأكد تمسكه ب «حكومة الأغلبية» وأن تكون «لا شرقية.. ولا غربية» أي حكومة مستقلة وعدم الخضوع للتهديد، وقال في إحدى مداخلاته: «لن نعيد البلاد للفاسدين، ولن نبيع الوطن لمن خلف الحدود» وخاطب الصدر من هم «خلف الحدود»: «كفاكم تهديداً ووعيداً».
صراع جديد يشهده العراق تتفاقم خطورته في ظل التعقيدات الجديدة التي تواجه اختيار رئيس الجمهورية الجديد، وتشكيل الحكومة، وأحكام المحكمة الاتحادية العليا وغيرها لتضع علامات استفهام حول مآلات هذا الصراع الذي يتهدد العراق.