تعاني لاريسا من مرض السرطان ومن ويلات الحرب المستمرة منذ ثماني سنوات ومن التهديد بغزو روسي، لكنها تتعايش مع كل ذلك بشيء من الصبر وحس الدعابة. التقينا بهذه المرأة البالغة من العمر 65 عاماً وهي تقف بالطابور في إحدى حظائر الطائرات في نقطة عبور "نوفوترويتسكي" في شرقي أوكرانيا.
تقع نقطة العبور هذه على "خط التماس"- وهو شق بطول حوالي 500 كيلومتر بين المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الأوكرانية ومنطقتين خاضعتين لسيطرة الانفصاليين المدعومين من روسيا منذ 2014. يقسّم هذا الخط العائلات والتجمعات السكنية والخدمات. وقد أودى الصراع المستمر هنا على الجبهة الشرقية بحياة أكثر من 14 ألف شخص- 3000 منهم على الأقل من المدنيين، بحسب الأمم المتحدة.
لا يعترف أحد بعد بجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوهانسك الشعبية المعلنتين من جانب واحد- ولا حتى الكرملين - لكنهما تضمان حوالي أربعة ملايين نسمة. ولاريسا واحدة من هؤلاء. كانت تلف نفسها اتقاء البرد بسترة زرقاء فاتحة وجرزاية زهرية اللون وقبعة من الصوف تتناسب معها في اللون. وقد فضلت عدم استخدام اسم عائلتها.
تصعيد "شديد" في الهجمات على طول الجبهة بين قوات الجيش الأوكراني والانفصاليين
آلاف يعبرون الحدود الأوكرانية إلى روسيا مع تواصل المساعي الدبلوماسية
كيف نعرف أن الحرب قد بدأت بين روسيا وأوكرانيا؟
يحتاج الأمر إلى تصريح وصبر للانتقال من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة إلى الجانب الآخر. ولاريسا تعرف الإجراءات المتبعة. وقالت: "أقوم بهذه الرحلة كل ستة أشهر. كنت في المستشفى في "ديبرو" (في وسط أوكرانيا) لإجراء فحص طبي وأنا ذاهبة الآن إلى منزلي في دونيتسك." وبينما كانت تنتظر أن تتفحص كلاب الأثر حقيبتها، لم يبد عليها قلق كبير بشأن الحشد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية.
وأضافت: "لقد تعرضنا للقصف، ومررنا بالكثير".
وتابعت تقول: "لا أعتقد أنه سيكون هناك غزو، أو إن حدث، فلن يكون كبيراً. هذا رأيي كشخص يملك حدساً. أشاهد التلفزيون وما يقوله السياسيون. وأعتقد أن ما يحدث لإبقائنا متحفزين ومنعنا من الاسترخاء المفرط."
ربما تكون على صواب.
لكن القادة الغربيين أبدوا مخاوفهم منذ فترة طويلة من إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على افتعال أزمة في مناطق الانفصاليين المدعومين من روسيا-أو شكل وجود أزمة- لاستخدامها كذريعة للغزو. وقد زُرعت بذور ذلك الجمعة الماضية عندما أعلن قادة الانفصاليين أنه سيتم إخلاء النساء والأطفال عبر الحدود إلى روسيا لأن أوكرانيا تخطط لشن هجوم عليهم. لكن كييف نفت ذلك ويبدو أن معظم المدنيين الذين يعيشون في تلك المناطق لم يبرحوا منازلهم.
وقالت لاريسا، بعينين لامعتين من فوق القناع:"نحن الشعب لا نريد وقوع أي حرب. نريد أن نعيش ونحب... نريد أن نحب الجميع ونحتضنهم". وبكلماتها تلك صعدت إلى حافلة لتأخذها عبر المنطقة الخالية إلى نقطة تفتيش على الجانب الآخر.
"سئمت حرب السياسيين"
بالعودة إلى الطابور، كان هناك رجل يبلغ من العمر 64 عاماً ويدعى "سيرهي"-يرتدي بأناقة سترة سوداء وقبعة بارزة إلى الأمام- يبدو عليه أنه قد تعب من الانتظار ومن الصراع.
قال لي إنه "أصبح من الصعب جداً عبور نقطة التفتيش. في السابق لم تكن هناك مشكلة. الآن بسبب الحرب- أو مهما يكن اسمها- إضافة إلى كوفيد، زادت الأمور سوءاً.
يتعين على كبار السن الذهاب إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة من أجل استلام معاشاتهم الحكومية الخاصة بالتقاعد. لكن "سيرهي" سافر، شأن الكثيرين، من أجل الالتقاء بالأحبة. وتساءل قائلاً: "علي أن أحصل على تصريح، ويجب أن يكون لدي سبب مهم. إلى أي مدى يجب أن يكون مهماً؟" وأضاف "والدتي تبلغ من العمر 86 عاماً، أي سبب سيحتاجونه أكثر من ذلك؟"
وفي خضم التحذيرات المستمرة من لندن وواشنطن بشأن غزو روسي محتمل، يبدو "سيرهي" قلقاً مما قد يحدث لاحقاً.
وقال: "بالطبع أنا قلق. لقد سئمت هذه الحرب، حربهم، حرب السياسيين. فهم من يفتعلونها، أما الشعب فيريد السلام." ما أن أنهى كلامه حتى فاضت عيناه بالدموع من فوق القناع الذي يرتديه.
بينما كان "سيرهي" يتوجه عائداً إلى منزله في دونيتسك، كانت "سفيتلانا" قادمة من الاتجاه المعاكس، تحت ممشى مغطى، تجر قدميها المتعبتين في خطى وئيدة.
وقالت لنا وهي تشعر بالرضى: "إنها زيارتنا الأولى منذ شهرين. لم نستطع رؤية أولادنا. حفيدنا رُزق بمولود، لكننا لم نره. والآن تمكنا من رؤيته".
بدت لنا نقطة عبور "نوفوترويتسكي"، في ظل وجود القوات المسلحة والحواجز وعمليات التفتيش على الهوية، وكأنها حدود دائمة. وخلال زيارتنا، سمعنا صوت القصف بالمدافع على الخنادق الواقعة على الجبهة والتي تبعد بضعة كيلومترات.
وقالت "إينا كيشتشوك"، نائبة قائد نقطة التفتيش: "في الآونة الأخيرة، بات هذا القصف يحدث أكثر من ذي قبل. لدينا ملجأ لكي يحتمي فيه الناس. نحن متدربون ونعرف ما يتوجب علينا فعله."
وفي الأيام الأخيرة، وقع تصعيد خطير على طول الجبهة، حيث حلت قذائف الهاون ونيران المدفعية محل القناصة. تقول أوكرانيا إن المقاتلين الانفصاليين صعدوا من هجماتهم لأن الرئيس بوتين يحاول الاستفزاز من أجل حصول رد. وتقول السلطات في كييف إنها لن تقع في هذا الفخ.
يسيطر الرئيس الروسي بالفعل على جزء من الأراضي الأوكرانية- بوجود المنطقتين الانفصاليتين وشبه جزيرة القرم، التي ضمها في 2014. لكنه يبدو جائعاً للمزيد. وهناك الآن مخاوف حقيقية إزاء مستقبل أوكرانيا والأمن في أوروبا. وإذا ما حصل غزو، فإن أولى الطلقات ستكون هنا.. في الشرق.