عندما وقعت الكارثة المالية-الاقتصادية، كان لبنان مكتمل النصاب المؤسساتي: رئاسة وحكومة ومجلساً نيابياً وتعيينات…على مدّ النظر.
وكان الوفاق السياسي بين غالبية المكوّنات السياسية يخنق كل معارضة في البلاد، حتى كاد يستحيل ايجاد فرق حقيقي بين تيارات وأحزاب طالما تناقصت وتصارعت.
وكان المجتمع الدولي قد وضع للبنان برنامجاً مهماً لاستعادة العافية المالية والاقتصادية، تمثّل في نتائج مؤتمر "سيدر" الذي نظّمه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ورعاه.
وكان مصرف لبنان يملك احتياطات "إسعافية" والجيش اللبناني "يأكل اللحوم"والشعب "يفوّل" سياراته بالبنزين ومولّدات الكهرباء بالوقود، ويرفض الأطباء والمهندسون وأساتذة الجامعة والإعلاميون والتكنولوجيون وغيرهم من قوى لبنان الحيّة العروض المهنية التي تنهال عليهم من الخارج، والشباب اللبناني ينتظر وصول تسعمئة ألف وظيفة الى سوق العمل، والفنادق تعج بالسيّاح، والمطاعم تبدع بفن الطبخ، والملاهي تغص بالروّاد، والأعراس تستحق كتاباً أروع من "ألف ليلة وليلة".
في ظلّ هذه المعطيات، حصل الإنهيار، فما الذي تغيّر، اليوم حتى يصبح تشكيل حكومة، مبشّراً بالإنقاذ؟ فهل هي من طينة مختلفة عن تلك الحكومات التي كانت قائمة؟ أليست حكومة حصص وتحاصص ومحاصصة مثلها مثل سابقاتها من الحكومات؟ وهل السير الذاتية لوزرائها، وبعضهم خبراء في اقتصاد المحارم الورقية وحفاضات الأطفال والعجائز، أو مطرودون من أعمالهم بتهم النصب والتحرّش، أو "محتقرون" في مؤسساتهم، أو "لاعقو أحذية" مجرم هنا وطاغية هناك، لامعة أكثر من تلك التي قدّمها كثير من الوزراء في حكومة حسّان دياب؟ وهل تغيّرت الازدواجية اللبنانية التي تجعل كلام لبنان الرسمي في واد "النأي بالنفس" فيما فعلُه الميليشياوي في "ميدان التورّط"؟ وهل اختلفت طبيعة رأس المال فأصبح شجاعاً بعدما كان جباناً؟ وهل خلق لبنان أدوات جاذبة للعملات الصعبة بعدما كان قد نفّرها؟ وهل فتح الكون خزائنه التي انهكتها مقاومة تأثيرات جائحة كوفيد-١٩ لتُغرق بها خزينة لبنان؟ وهل تاب السياسيون اللبنانيون الذين هجاهم الداخل والخارج في آن، بكفاءة الفرزدق وجرير والمتنبّي، فلبسوا المسوح الغفرانية؟
فعلاً، ما الذي تغيّر حتى يمكن الاعتقاد بأنّ ما تسبّب بالإنهيار الكبير، سوف ينتج انقاذاً، في ظل معطيات سلبية للغاية؟
"ضعوا السياسة جانباً"
رئيس الحكومة نجيب ميقاتي طلب، في كلمته "الدامعة"، بعد إعلان مرسوم تشكيل "حكومته" التوقف عن الكلام في السياسة، انطلاقاً من أنّ الهم هو مالي واقتصادي ومعيشي.
قال للصحافيين الذين احتشدوا في القصر الجمهوري: "رجاء، ضعوا السياسة جانباً. نحن نريد اقامة ورشة لتوفير الحد الأدنى للناس".
ميقاتي ليس أوّل من يأخذ هذا المنحى. قبله فعلها الرئيس سعد الحريري، عندما قرّر ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية ومن ثم وافق على انتخاب ميشال عون وشكّل معه حكومة العهد الأولى، فأعلن أنّ اللبنانيين تعبوا من السياسة، وهم يريدون طرقاً معبّدة وكهرباء وفرص عمل.
يومها، غالبية اللبنانيين ساروا بهذا التوجّه، فتوقفوا عن الكلام في السياسة، واذا تمرّد أحدهم انهال عليه "المحازبون" بالشتائم و"طمروه" بسخرياتهم "التأديبية".
بمحصّلة هذه العملية "اللا سياسية"، لم يخسر اللبنانيون طرقهم وكهرباءهم وأعمالهم، بل كلّ شيءٍ بما في ذلك لقمة العيش.
الآن، يريد ميقاتي الأمر نفسه، ولكن من أين أتت هذه النظرية التي تستند الى وهم مفاده أنّ هناك قدرة على فصل السياسة عن الاقتصاد؟
في المبدأ، هذه نظرية "خنفشارية"، فالاقتصاد مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة، لا بل ثمّة من يذهب الى أبعد من ذلك، فيشير الى أنّ الإقتصاد هو عصب السياسة في العالم لا بل هدفه، وهو ، في غالبية الأحيان يكون دافعاً الى الحروب والنزاعات، وما لجوء الدول الكبرى والتجمّعات الاقليمية الى "سياسة العقوبات الاقتصادية" ضدّ "مجموعات وكيانات مارقة"، إلّا واحد من أكثر الأدلة سطوعاً، على ذلك.
وفي الواقع، إنّ كلّ حكومة لا تنجح في التصدّي للواقع السياسي يستحيل أن تنجح في أيّ تحدّ اقتصادي، لأنّ الأطراف التي تتشكّل منها الحكومة لا تتعاطى مع أيّ حدث إلّا بخلفية سياسية، ف"حزب الله"، وهو اللاعب الأبرز في الساحة اللبنانية، لا يحرّك سبابته، إلّا بخلفية سياسية، ناهيك عن أنّ ميقاتي نفسه لم يصبح رئيساً للحكومة لأنّه "بيّاع ثياب" أو "مشغّل هواتف"، بل لأنّه سياسي "حتى العضم"، ولم يتوقف لحظة عن الحديث في الشؤون السياسية.
إنّ لبنان لم يصل الى الوضعية المأساوية التي وصل إليها، إلّا لأسباب سياسية. كلمات الأمين العام ل"حزب الله" حسن نصرالله تؤكّد ذلك، ولو من وجهة نظر مختلَف عليها، فهو، منذ مدة، لا يتوقف عن التأكيد على أنّ ما يعاني منه لبنان ليس سوى مؤامرة اميركية-اسرائيلية لتركيع "المقاومة"، وهذا يثبت أنّ الأم التي أبكت ميقاتي لأنّها "لم تجد "حبّة أسبرو لابنها" هي ضحية للسياسة.
وحكومة ميقاتي نفسها، جرى تشكيلها بالسياسة. خلافات الأشهر الثلاثة عشر التي أعقبت استقالة حكومة حسّان دياب، كلّها سياسية. الحلّ الذي أنهى الفراغ هو سياسي بامتياز ، بحيث دخلت على خطّه طهران بعد تفاهم مع باريس لا تزال أبعاده الحقيقية محور نقاش، تَوَّجه اتصال الرئيسين الفرنسي والايراني ايمانويل ماكرون وابراهيم رئيسي، في الخامس من ايلول (سبتمبر) الجاري، أي قبل خمسة أيّام من توقيع مراسيم الحكومة اللبنانية.
وعليه، فإنّ استشراف نجاح حكومة ميقاتي الثالثة في المهمة الاقتصادية التي تأخذها على عاتقها، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة.
إنّ إصلاح علاقات لبنان بدول مثل المملكة العربية السعودية، لا يقوم إلّا على منطق سياسي، واستمرار التفاهم الفرنسي-الايراني على لبنان كذلك، وسير الولايات المتحدة الاميركية بمنح لبنان استثناء من موجبات "قانون قيصر"، بما يتصل بجرّ الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، لا يشذ عن هذه القاعدة التي كانت إسرائيل محرّكاً أساسياً في اتجاهها، لأسباب سياسية أيضاً وأيضاً، وفق المنطق الذي نادى به علناً وزير الدفاع الاسرائيلي بيني غانتس ونقله الى الرئيس جو بايدن رئيس الحكومة الاسرائيلية نفتالي بينيت.
ولهذا، من البديهي التشديد على معرفة سياسة حكومة نجيب ميقاتي التي يفترض أن تكون في خدمة الاقتصاد، فماذا ستراها فاعلة لتنهي ما يسميه نصرالله "مؤامرة لتركيع المقاومة"، فهل هي قادرة على اقناع "حزب الله" أو اسرائيل والولايات المتحدة الاميركية بتغيير سياساتها، أو أنّ المواجهة ستعود الى أوجها، بعد انكفاء أميركي سبّبه الإرباك الأفغاني؟ وهل سوف يسمح "حزب الله" الذي يملك وحلفاءه المباشرين قوة كاسحة في حكومة ميقاتي بعودة لبنان إلى المجتمع الدولي، من خلال صندوق النقد الدولي، أو أنّ سياسة الاستفراد به لمصلحة "محور الممانعة" سوف تصبح أكثر صلافة؟ وهل إنّ القوى السياسية اللبنانية التي شكّلت هذه الحكومة، بعد التوافق على حصصها، سوف تقبل بالتضحية بمصالحها لمصلحة الاقتصاد، وهي التي اعتادت على تسخير كل مقدّرات لبنان لمصالحها؟
هذه هي الإشكاليات الفعلية التي لا بد من الإنكباب على ايجاد تصوّرات عنها، لأنّ إهمالها كان قد تسبّب بسقوط لبنان، ووحده الإهتمام بها، يمكنه أن ينهض بلبنان.
وما دون ذلك، هو "علك كلام" و"ضحك على العقول" وضرب في الماء وسراب يتراءى لتائه في صحراء، وأمّ ستتفاقم حاجتها الى "حبّة أسبرو".