: آخر تحديث

أصبحت مدمناً على مشاهدة الكرة الإنجليزية

14
15
15

في معظم الأحيان، لا تتصل بي بناتي إلا إذا كان هناك شيء يرغبن به (وغالباً شيء مادي وليس معنوياً!) أو إذا كان هناك خبر مزعج (باستثناء تهنئتي بعيد ميلادي)! اكتشفت أن هذا حال معظم الأمهات والآباء، وتذكرت المثل المصري الشهير الذي كانت تردده أمي دائماً: "قلبي على ولدي انفطر.. وقلب ولدي علي حجر". المثل فيه مبالغة بعض الشيء، فقلب بناتي ليس حجراً، ولكنه ربما قلب بلاستيك مطاطي قليلاً!

لكن في الأسبوع الماضي، اتصلت بي ابنتي الكبرى التي تعيش في مدينة تبعد عني ثلاث ساعات بالطائرة، وحوالى شهر بالحصان أو الجمل. كانت منزعجة جداً وهي تحتضن طفلتها (أقل من ثلاث سنوات) وتقول إنها لا تستطيع النوم وتتعرض لكوابيس إذا نامت، بسبب كثرة متابعة أخبار التدمير والقتل اليومي في غزة ولبنان وحتى في أوكرانيا. هي دائماً تقول لي (وخاصة بعد قضائها شهر العسل في غابات أفريقيا) إنَّ الحيوانات المتوحشة أكثر إنسانية بكثير من الإنسان، أما الحيوانات النباتية مثل الأرانب والغزلان فهي "غلابة" جداً وأرقى بكثير من الحيوانات المتوحشة والإنسان معاً، وأنا أوافقها. المهم، طيبت خاطرها ونصحتها بالتوقف فوراً عن مشاهدة الأخبار سواء على التلفزيون أو الموبايل، وإذا كان لا بدَّ من معرفة الأخبار، فلا بأس من قراءة العناوين الرئيسية فقط من موقع حيادي بدرجة ما، وذلك لمعرفة ما يحدث في العالم بدون النظر إلى فيديوهات التدمير والقتل والتهجير القسري.

أخبار الـ24 ساعة من أسوأ الاختراعات الإنسانية، صحيح أنها تنقل لنا ما يحدث في العالم لحظة بلحظة، لكنها أيضاً، وفي معظم الأحيان، لا تنقل إلا أخبار المصائب. ناهيك عن نشر أخبار ملفقة أو خلط الرأي مع الخبر، مما يشبه وضع السم في العسل الأسود.

أعيش في ولاية فلوريدا، وهي عاصمة الأعاصير في أميركا (وربما في العالم). قبل أن يأتي إعصار بأسبوع، تبدأ قنوات الأخبار المحلية والعالمية بتسميم أبداننا بالأخبار، وكنت أحس بأنَّ المذيعات والمذيعين يرقصون طرباً لأخبار الأعاصير، لأنها تجعل المواطن لاصقاً أمام شاشة التلفزيون، وهذا يعني إعلانات أكثر ومكاسب أكبر للقناة التلفزيونية (مصائب قوم عند قوم فوائد).

أما أخبار الحروب، فعلاوة على أنها تنشر الإزعاج والشعور بالاكتئاب عند معظم الناس، فإنها أيضاً تنشر الكراهية بين البشر، مما يحفز بعض الشعوب على الضغط على حكوماتهم لإشعال مزيد من الحروب. يعني أن تلك الأخبار تساهم، سواء بقصد أو بدون قصد، في تسويق مزيد من الحروب.

لذلك، ومنذ انتشار وباء الكورونا في شهر آذار (مارس) 2020، قاطعت تماماً كل الأخبار على التلفزيون والراديو والإنترنت وحتى البوتاجاز، ولا أشاهد سوى الأفلام الكلاسيكية أو الجيدة من الأفلام الحديثة، وكذلك أشاهد بعض المسلسلات الكوميدية قبل النوم، لذلك أنام كل ليلة وأنا أضحك.

وأصبحت مدمناً لمشاهدة مباريات الكرة الأوروبية، وخاصة مباريات الدوري الإنجليزي، لأسباب كثيرة، أهمها:

أولاً: وجود اللاعب العالمي محمد صلاح في صفوف فريق ليفربول جعلني أشجع فريق ليفربول وأشاهد مبارياته دائماً، ونسيت تماماً أني زملكاوي قديم، وأصبح ليفربول فريقي المفضل.

ثانياً: في لعبة كرة القدم (وفي الرياضة عموماً) ترى محصلة مجهودك فوراً، كلما حاولت أكثر وتدربت أكثر واخترت مدرباً جيداً، نجحت أكثر.

ثالثاً: في كرة القدم لا تجد وساطة. لن تستطيع الذهاب لمدرب نادي تشيلسي وتقول له: "والنبي الواد ابن أختي ده لاعب هايل وعاوزك تضمه للفريق الأول، وما ليش بركة إلا أنت!".

رابعاً: في كرة القدم لا يوجد تفرقة بين ألوان البشر (بخلاف لون الفانلات). ومن المفارقات أنَّ فريق فرنسا الفائز بكأس العالم سنة 2018 كان معظم أفراده من أصول أفريقية ذوي بشرة سوداء. ويومها كتبت تعليقاً بأن فريق فرنسا هو أول فريق أفريقي يفوز بكأس العالم! وعندما يسجل لاعب أسود أو أبيض أو أصفر أو برتقالي (لا يهم) تجد كل زملائه يهرولون نحوه ويأخذونه بالأحضان رغم اختلاف ألوانهم. فهل تجد انسجاماً ومحبة أكثر من هذا؟

خامساً: لا يوجد فرق بين الدول التي ينتمي إليها اللاعبون. فعلى سبيل المثال، فريق ليفربول يبدو وكأنه فريق الأمم المتحدة، ففيه لاعبون من: مصر، اليابان، هولندا، فرنسا، البرازيل، اليونان، أسكتلندا، الأرجنتين، أوروغواي، البرتغال، كولومبيا، المجر، وأخيراً إنجلترا. تجدهم، رغم أنهم يمثلون 14 دولة، يلعبون معاً بروح الفريق، وهو شيء مفتقد تماماً في الأمم المتحدة.

سادساً: تجد أن هؤلاء اللاعبين يؤمنون بأديان مختلفة أو لا يؤمنون، ولا يهم. كل واحد في حاله. فالدين لله والكرة الأرضية للجميع. تجد جمهور ليفربول المسيحي في أغلبه يهتف (رغم معرفتهم بأنه مسلم) لمحمد صلاح وهو ساجد شكراً لله عندما يسجل هدفاً، وتجد لاعباً يرسم علامة الصليب على صدره تبركاً وهو ينزل الملعب ولا يزعجه أحد، وآخر يقرأ تعاويذ قبل بدء المباريات بدون أن ينتقده أحد.

سابعاً: حكم المباراة هو قاضي اللعبة، يحكم بالعدل بدون وساطة أو رشوة. وحديثاً، تم وضع حكام وراء الستار بتكنولوجيا الفيديو لمساعدة الحكم لتجنب أخطاء قد تؤثر على نتيجة المباراة.

ثامناً: ما تراه على الملعب هو الحقيقة كاملة، والنتيجة للمهزوم أو المنتصر هي الحقيقة كاملة، ولا يوجد هناك أخبار ملفقة أو نصف الحقيقة، وهذا عكس السياسة تماماً.

تاسعاً: ترى أحياناً لاعباً يرتكب خطأ (سواء مقصوداً أم لا) يعتذر لمن ارتكب الخطأ في حقه. أين تجد هذا في السياسة بل وفي الحياة؟ وإذا أخطأ لاعب بهدف إيذاء لاعب آخر، فيتم طرده على الفور من الملعب عقاباً له ولفريقه وعبرة لغيره.

عاشراً: تجد في نهاية المباراة أن مدرب ولاعبي الفريق المهزوم يهنئون الفريق المنتصر ويحتضنون بعضهم البعض، وأحياناً يتبادلون الفانلات للذكرى.

لذلك، أتمنى أن يتعلم البشر من مشاهدة تلك المباريات حتى يستحقوا لقب "إنسان".

ونصيحة أخيرة للقارئ: تجنب الأخبار وتناول ملعقتين كرة قدم بعد العشاء، وملعقة فيلم كوميدي قبل النوم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.