ضرب إعصارٌ سياسيٌّ الولايات المتحدة الأميركيَّة، خلال الساعات الماضية، جرَّاء الرصاصات التي أطلقها ماثيو كروكس، على الرئيس الأميركي السابق والمرشَّح للانتخابات المُقبلة، دونالد ترامب، أثناء تواجده بين أنصاره في ولاية بنسلفانيا، هذه الطلقات التي نجا منها ترامب بأعجوبةٍ - كما وصفها هو -، لم تترك فيه إلَّا خدشًا بالقُرب من أذنه اليمنى، ولكنها ملأت الأرض ضجيجاً، واستحوذت على اهتمام الرأي العام العالمي، كما تصدَّرت بسرعة البرقِ عناوين الصحف ونشرات الأخبار.
ولولا أنَّ القدر تعاطف مع ترامب ومال برأسه قليلاً إلى اليمين، لقراءة رسمٍ بيانيٍّ حول المهاجرين غير النظاميين، أثناء إلقاء خطابه في التجمُّع الانتخابي؛ لسقط قتيلاً، وانفجرت الأوضاع في بلاد العم سام، وتهاوت البلاد إلى مستنقع العنف، وهي التي تعيش حالياً حالةً من الاحتقانِ والغليان السياسيِّ الداخليِّ، الذي لم تهدأ وطْأته منذ الانتخابات الأخيرة، وهي ظروفٌ مُمهِّدة لأيِّ صراعٍ قد ينتهي به المطاف إلى حربٍ أهليةٍ على أقصى تقدير.
مثل هذه الحوادث نادرة الوقوع في المجتمعات الغربيَّة المُتقدِّمة؛ حيث إن آخر محاولة اغتيالٍ تعرَّض لها رئيسٌ أميركيٌّ، سواء كان سابقًا أو مازال في الحُكم، كانت من نصيب رونالد ريغان، قبل 40 عاماً أو يزيد، ولكننا هنا وبالنظر إلى ما حدث مع ترامب بالتحديد، فإننا نتحدَّث عن رئيسٍ مُحتمل لأكبر دولة في العالم، يحميه جهازٌ خاص؛ هو الخدمة السِّريَّة المؤهَّل على أعلى مستوى، والذى يملك من الحسِّ الأمنيِّ ما يجعله يتلاءم مع دوره المهم والحيوي، ولقد لاحظنا هذا من سرعة رد فعل رجاله؛ عندما أردوا القائم بعملية الاغتيال الفاشلة قتيلاً برصاصةٍ سكنت بين عينيه.
بالطبع، فإن مما لا يُمكن إغفاله في مسارح السياسة، أن المستفيد الأول والأخير من هذه العملية هو ترامب نفسه حيث عزَّزت تلك الواقعة طموحه، ومهَّدت طريقه نحو البيت الأبيض من جديدٍ لأربعة أعوامٍ قادمة، بعدما غُيِّب مثلها إثر خسارته أمام الرئيس الحالي جو بايدن، ولكن الحديث يدور الآن حول ماهية هذه العملية، وهل يتقبَّل عقلٌ قُدرة شابٍ لم يتجاوز العشرين ربيعًا على التخطيط بمفرده وإقدامه على التنفيذ بحِرفية؛ من اتخاذه موضعاً مناسباً لإطلاق الرصاص بعيداً عن أعين عملاء الخدمة السِّريَّة، حتى أنه درس السلاح الذي استخدمه من حيث خصائصه ومداه، وتمرْكز في مكانٍ يجعله يتفادى عوامل الطبيعة؛ من سرعة الرياح واتجاهها حتى لا تُخطئ الطلقات هدفها المنشود.
إقرأ أيضاً: ... وانقطع دابر إخوان الكويت!
من وجهة نظري أرى الحادثة تخطيطاً فردياً، أجاد الشابُ فيه دوره الذي رَسَمه لنفسه، ولا يمكن أن يكون مدفوعاً من جماعةٍ بعينها ولا محسوباً على تيارٍ دون سواه، فالمعلومات التي حصلت عليها الأجهزةُ الأمنيَّةُ في أميركا تُشير إلى أنه مُسجَّلٌ في كشوفات الناخبين الجمهوريين، وأنه كان قد تبرَّع لإحدى الجمعيات الليبراليَّة بمبلغٍ زهيد، وبرؤيةٍ منطقية أكثر، فإنني أيضاً أستبعد السيناريو الذي سار في كنفه آخرون؛ وهو احتمالية تدبير ترامب لهذه التمثيلية، لأنه أكبر من هذا، ويُدرك تماماً إمكانية افتضاح حال إقدامه على هذا الفعل الصبياني.
وبلا شك تتجه المؤشرات صعوداً، بعد هذا الحادث، وحتى تلك الواردة من الداخل الأميركي نفسه، إلى رجاحة كفة ترامب في الانتخابات التي تُجرى يوم الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، فقد أكسبته عملية الاغتيال الفاشلة هذه تعاطفاً كبيراً حتى من بعض قادة الحزب الديمقراطي، ورغم اتصال بايدن للاطمئنان على صحة منافسه، وإعلان حملته وقف الأنشطة الدعائية لها، إلَّا أن ذلك لم يمنع أو يُسكت الأصوات العالية، خاصةً تلك التي تكيل الاتهامات لبايدن، ومن بينهم شخصيات مُؤثِّرة ولها ثقلها؛ مثل ما كتبه السيناتور جيمس ديفيد فانس، وهو مرشَّحٌ بارزٌ لمنصب نائب الرئيس على بطاقة ترامب، على منصة «إكس»، بقوله إن "عملية إطلاق النار لم تكن مجرَّد حادثة يتم التعامل معها بمعزلٍ عن الأحداث حولها"، وهذا رغم خروج بايدن بعد عملية الاغتيال مُندِّداً به، ومؤكِّداً أنه لا مكان للعنف في بلاده.
إقرأ أيضاً: الدراما الإيرانيَّة.. رديئة السيناريو والإخراج
ترامب الذى بدأ حملته مبكِّراً، منذ خروجه من البيت الأبيض ودخول بايدن بديلاً له، أجاد خلال تلك المدة استخدام لغة المظلومية؛ ليُظهر نفسه وكأنه تمَّ الافتراءُ عليه، ولم يترك مناسبةً إلَّا واستغلها في الهجوم على بايدن، خاصةً مع كل حدثٍ ينال منه ويُشكِّك في سلامة قواه العقلية والجسدية؛ مثل تلك المواقف التي تخونه فيها الذاكرة أو التي يقع فيها في نفق السهو، وتلعْثُمه في الكلام وتخبُّطه في السَّير، وفي كل مرة كان يكسب ترامب نقاطاً لصالحه، حتى جاءت واقعة الاغتيال لترفع أسهمه أكثر وتُعزِّز حظوظه في العودة إلى الدار البيضاء.
وقد أحسن ترامب - كعادته- في استغلال كل موقفٍ للترويج لنفسه؛ من خلال سرعة البديهة التي تعامل بها مع الواقعة التي تعرَّض لها، فلم يخضع لتعليمات عملاء الخدمة السِّرية ويختبئ حفاظاً على سلامته، ولكنه رَاح يُلوِّح لأنصاره، كما لو كان رئيساً حالياً لأميركا، وبدا قوياً وقادراً على مواجهة التحديات والخروج من كل مأزقٍ أقوى مما كان، وما هي إلَّا ساعات وكتب لجمهوره رسالةً مفادها: «أنا أحب أميركا بصدق شديد، وأحبكم أنتم جميعاً، وسوف أتحدَّث إلى أمتنا العظيمة هذا الأسبوع من ولاية ويسكونسن»، واستكمل كلامه الحَماسي الذي يُجيِّش المشاعرَ قائلاً: «لن يُخيفنا شيءٌ، وسنظل صامدين ومُتحدين في وجه البشر».
إقرأ أيضاً: "ردَّني إلى بلادي"... إلى السيدة فيروز
كما أن للانتقادات التي يلقاها بايدن من داخل الحزب الديمقراطي ومن جموع الأميركيين؛ بسبب سقطاته الكثيرة الناجمة عن كبر سنه، وزيادة المطالبات له بالتراجع عن موقفه وعدم الترشُّح وترك الفرصة لغيره، دوراً في تعزيز موقف ترامب، خاصةً أنه أطلق تصريحات متطرفة، في الفترة الأخيرة، بأن نجاح ترامب سيكون على جثته، وذلك بعد أشهرٍ من تهديد ترامب بأن عدم فوزه سيجعل هناك حمامات دماء في شوارع أميركا، قبل أن يعدل عنها ويقول إنه سيُعدِّل خطابه الحماسي ضد بايدن ليجعله بلُغةٍ معقولة حَكيمة تُوحِّد شعبه، والذي من المُقرر أن يُلقيه في افتتاح المؤتمر العام للحزب الجمهوري في ميلووكي بولاية ويسكونسن، الذي سوف يُرشِّح ترامب لرئاسة أميركا للمرة الثالثة.
ختاماً؛ فإن ترامب ربح من رصاصات ماثيو كروكس، وبات الأوفر حظاً في المحفل الانتخابي المقبل، بل يُمكننا القول بأن جُرح بايدن من أثر تلك العملية الأكثر إيلاماً والأطول وقتاً من تلك اللحظات التي تألَّم فيها ترامب، والتي يقينًا سوف تكون سبباً وبنسبة كبيرة في دخوله البيت الأبيض من جديد، كما قد تدفع العجوز الديمقراطي على الرضوخ للمطالبات التي احتدَّت عليه بإفساح المجال لغيره في ظل تمكُّن الشيخوخة من جسده الهزيل، وذاكرته الضعيفة.