لن أدخل في السياسة؛ لأنها أمُّ الأحزان والشقاق في أوطاننا؛ فالسياسة الحقيقية هي: التنمية، وصناعة الحياة، وتآلُفُ القلوب على المحبة، من دون خزعبلات الطائفة والقبيلة. هي مهارة الوعي والتأقلُم مع المشكلات والأزمات، وإنشاء السدود لحماية العباد من أمراض العنصرية والتعصُّب والكراهية، التي أصبحت مرضًا مُزمنًا يفتك بالسِّلْم المجتمعي.
ليس مطلوبًا مني أن أُجمِّل صورةَ الواقع بالعبارات المُنمَّقة، ولست محتاجًا أن أسمع الحاكم وهو يقول: (أعطوه مليون دينارًا) !، فأنا مسرورٌ بالعيش في أربيل منذ عامين؛ رغم أنني أحمل إقاماتٍ دائمةً لدولٍ مرفَّهة، يتمنى المرءُ أن يعيش فيها الدهرَ كلَّه؛ لكنني وجدت في أربيل مدينة تشفيني من عذاب الغربة، وتُعيد لي جمالَ بغداد في قديم الزمان؛ بمحلاتها، وأسواقها الشعبية، وعبقِها التاريخي، وتناغُمِ الناس وتضامنهم الاجتماعي.
العيش في أربيل، ليس حلمًا من أحلام ألف ليلة وليلة، ولا هو نهاية القصة؛ لكنها في العراق، بالمقارنات البسيطة، مدينة أحلام بين ركامات مدنٍ عبثت بجمالها المزابل والأوساخ ومياه المجاري الآسنة، وسرقت أحلام بنيها بالفساد. ما عادت مدنًا حضرية؛ بل قرىً تتقاتل فيها القبائل والأحزاب؛ من أجل السطوِ على خزائنها، ووأد ما تبقَّى من أمل وأمنيات!
سأقولها بصراحة؛ إن أربيل فيها الكثير من الفخامة والأُبَّهة؛ لكن فيها بعض المُنغِّصات، منها ما هو موضوعي وواقعي، ومنها الآخر المُفتَعل. وهناك وجهات نظر بعيون مختلفة، وقلوب مُزخرفة باللون الأبيض والأسود. لذلك سأقول لرئيس الوزراء، الشاب المتفتح، العاشق لشعبه ومبادئه ومسيرة والده: إن أربيل تحتاج إلى ثورة إدارية تُوازي ثورة العمران والنظافة والأمن، وأن تكون شفَّافة في توضحيح الحقائق؛ لكي يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود للمفتخر بالمنجزات، والناقم عليها!
أعرف بمقاييس الزمن والرياضيات، بأن هناك تحدياتٍ واجهت رئيسَ وزراء الإقليم، بعضها خارجي وداخلي، والآخرُ مادي وبشري، وأن هذا الرجل جاء في أصعب وقت ومرحلة؛ حيث عواصف السياسة تفتك بالعلاقات، وقطع الأرزاق تُبرمج سرًّا؛ لإيقاف تنمية الإقليم حقدًا وحسدًا. وقد حمل الرجل معه برنامجًا طموحًا في القضاء على الفساد، وإنهاء الأزمات المالية، وتقليص البيروقراطية، والإصلاح الإداري والمالي، والحفاظ على أمن واستقرار الإقليم.
وأعرف أيضًا أن الثورة الإدارية بحاجة إلى إمكانيات وصبر، فهي ليست وجبةً تُطهى على نارٍ سريعة، ولا قرارًا من دون إرادة. لكن المطلوب، وبصورة عاجلة، هو: تنمية البشر داخل مؤسسات الإقليم؛ للتعامل مع متطلبات الانفتاح والاستثمار، وتأهيل العاملين فيها لتعلُّم منطق الإدارة الحديثة واللغات المختلفة، ومنها: اللغة العربية، وتطوير الحكومة الإلكترونية، والقضاء على البيروقراطية والفساد، وأن يوازي الاستثمار والعمران إدارة استثمار البشر، بطريقةٍ مُبتكَرة.
قبل أيام لخَّص أحدُ الأصدقاء مشكلتَه مع المؤسسات، لفتحِ مشروع استثماري؛ بأنه عانى من الحلقات الإدارية الكثيرة لإنجاز معاملته، وصعوبة التعامُل مع العاملين الذين لا يُجيد معظمُهم اللغةَ العربية أو الإنكليزية، وعانى من بطء العمل؛ بسبب عدم جديَّة الموظفين، وانشغالهم بهواتفهم النقَّالة، وعدم وجود أماكنَ للانتظار، وإذا وجدت؛ فإنها ضعيفةٌ من ناحية التأثيث والتبريد.
قضية أخرى، أعرف أن أمن واستقرار الإقليم هو العامل الأول لجذب البشر، وأن ما تقوم به من إجراءات مُشددة في قضية الإقامة هي متطلبات واقعية، في ظل الأزمات الأمنية المحيطة بها، وأن هناك انتقادًا قويًّا بخصوص عملِ إقامةٍ للعراقي من أهل الدار؛ لكن الأمر في النهاية يحتاج إلى دراسة جديدة في موضوع المدة، وأساليب تنفيذها، والاستفادة من تجارب الدول، ومنها الخليجية، في تمديد مدة إقامة العراقي لسنوات، لمن يمتلك عقارًا أو شركة، وتقليص إجراءاتِ عمل الإقامة بطريقة أمنيةٍ جديدة، والانتهاء من عصر المختار الذي يُقرر مصير العباد.
ويُقال: إن شوارع المدن هي واجهة جمالها ودليل تنظيمها؛ لأنها شريان الحياة، وبوصلة الحركة السكانية والفيزيائية، وتعكس بهاءَ الدول وسحرَها، وقد حقَّق الإقليم ثورةً كبيرةً في بناء الطرق السريعة والراقية، لا تقلُّ في مستواها عن شوارع العالم المتقدم. لكن الإقليم يحتاج إلى الاهتمام بتنظيم الطرق الداخلية؛ لتقليل الفوضى والازدحامات والحوادث المرورية، من خلال تخطيطها بالألوان العاكسة المعروفة.
والأهم، هو الإكثار من ممرات المشاة في الشوارع الخطرة، وأمام الأسواق والمستشفيات والمدارس والمؤسسات. وعمل جسور للمشاة، مع الحاجة الماسة إلى تحديث الإشارات الضوئية، التي يعود بعضها إلى فترة السبعينات، وهو لا يليق بحضارة وجمال مدن الإقليم وعماراتها العصرية الشاهقة.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، لا يُوجَد في شارع " كويه" الشارع التجاري والسكني، أي خطوط مرورية، أو جسور للمشاة؛ مما يسبب ازدحامًا كبيرًا طوال الوقت، ويتسبب في حوادثَ مروريةٍ مُفجعة. كما أن طريق أربيل – الموصل في أتعس حالاته، حيث بنيته متهالكة مليئة بالحفر رغم انه شارع استثماري وسياحي.
والحق يُقال؛ إن رجال الإقامة والمرور في أبهى صور الإنسانية، وأدق انضباط، وأسمى رقي في التعامل، وأنبل احترام مع المراجعين، ولدى المرور منظومة متطورة للفحص وعمل الإجازات، ترتقي إلى تجارب دولٍ متطورة كثيرة.
قضية أخرى؛ أربيل تتميز بأنها مدينة مجمعات سكنية على مساحات واسعة في اتجاهاتها الأربعة، ولها مرجعية للتنظيم، خاصة دائرة الاستثمار؛ لكن بعضها لا يزال يُناور للحصول على المزيد من المال جرَّاء الخدمات؛ حيث إن هناك استغلالاً لأزمات الماء والكهرباء والخدمات الأخرى، مرة بشماعة أزمة المياه في أربيل، وأخرى بأزمات الموقع المرتفع. رغم أن صاحب المشروع هو الذي اختار المكان، وهو المسؤول عن تقديم الخدمات، وليست الحكومة.
لا أريد تحديد أسماء المجمَّعات في الوقت الحاضر، ولا الدخول في التفاصيل والمخالفات؛ لكن هناك اجتهاداتٍ متضاربةَ الأهداف، بعضها يحتال على القانون وحقوق الناس معًا، وبعضها يسمح بعمل خزانات مياه فوق السطوح، وأخرى تمنع ذلك بحجج واهية، ورابعةٌ تُضيف خدمات توصيل المياه في الصيف بخدمات إضافية، ويتم تهديدها بقطع المياه عنها، رغم أنها حقٌّ من حقوقها، وبعضٌ منها تمنح سند الطابو لمالكيها، والأخرى تضع العراقيل لتنفيذها بطرقٍ مُلتوية. والقصة لا تنتهي، وهي تحتاج إلى كتابات أخرى بالتفصيل والأسماء!
قصارى القول، رسالتي صادقة بمحبة، وثقةً بالرجال الذين شيَّدوا مدنَ الإقليم بالحكمة والتسامُح، وأسَّسوا جمالاً مُبتكرًا في المدن، ووفَّروا الأمنَ والأمانَ للبشر، بأنني أريد كردستان أجمل وأبهى في حضورها وتألُّقِها، وروحها المتسامحة. ويكفيها فخرًا أنها واحةٌ للتعايُش السلمي؛ باحتضانها قومياتٍ وطوائفَ ومذاهبَ مختلفة. مثلما أنا مُتيقن بأن كاكا (مسرور) الذي يُدير حكومة التحدي باقتدار، وجرأة القرار، وبحكمة الوالد، قادرٌ أن يُدخِل السرور إلى النفوس. ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ.