يقول تقرير أمريكي صدر مؤخرا "أن النظام الفيدرالي العراقي الذي يعد أهم مكتسبات عملية تحرير العراق عام 2003 معرض للإنهيار ما سيؤدي إلى عودة الحكم المركزي لهذه البلاد". ففي تقرير نشره مركز (wilson) مؤخرا أشار إلى أنه بعد فشل الاستفتاء الذي أجري في إقليم كردستان لتقرير المصير والانفصال عن العراق، تسعى بغداد حاليا إلى إستعادة الحكم المركزي عبر إضعاف سلطة الإقليم وحرمانه من مصادره المالية. ويقول التقرير "يبدو أن النظام المركزي هو الأنسب لدول الشرق الأوسط، رغم أنه قد يؤدي إلى حدوث مصادمات في المجتمعات التعددية، ولكن العراق ماض في إلغاء "الفيدرالية" هذا الميراث الفريد الذي تحقق باحتلال العراق من قبل الجيش الأمريكي". ويتحدث التقرير عن إنهماك بغداد بإعادة قولبة الحكم الذاتي في كردستان عبر حرمانها من العوائد المالية. ويمضي في القول "أن استفتاء الانفصال عجل مسعى بغداد لتحقيق هذا الأمر والتوجه نحو إلغاء النظام الاتحادي في العراق".
إلى هنا ينتهي التقرير بدق ناقوس الخطر على الكيان الكردي الذي حقق نوعا من الاستقلالية الذاتية بعد عشرات العقود من النضال القومي وبعد تضحيات جسام قدمت على هذا الطريق.
لا بد من تذكير القاريء بأن السيد مسعود بارزاني الذي كان رئيسا لإقليم كردستان قد أجرى استفتاء شعبي عام في 25 أيلول من عام 2017 لتقرير المصير والانفصال عن العراق رغم مناشدة معظم دول العالم بقواها الكبرى ودعوة دول الجوار والأصوات العالية داخل إقليم كردستان من الكتاب والمثقفين والسياسيين بعدم اجرائه، لكنه أصرعلى التحدي ورفض جميع النداءات والمناشدات بما فيها رسالة وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون الذي وعد بطرح هذا الموضوع على طاولة البحث في حال وافق البارزاني على تأجيل الاستفتاء لمدة عامين.
ليس هناك كردي شريف مخلص لوطنه وقضيته العادلة لا يرغب في التحرر والاستقلال وبناء دولته القومية المستقلة ويقبل بعودة السلطة المركزية إلى كردستان، ولكن هناك حقائق لا يمكن أن نتغافل عنها وهي حقائق يلمسها المواطن الكردي عبر ثلاثين سنة من الاستقلال شبه الذاتي لإقليم كردستان. وتتلخص تلك الحقائق بالأخطاء الجسيمة التي إرتكبتها القيادة السياسية الكردية عبر السنوات الماضية والتي تسببت بفشل التجربة الكردية الاستقلالية وأدت في المحصلة بالمواطن الكردي أن يرحب بهذه القولبة نتيجة معاناته المستمرة مع الحكم الكردي. ودعونا نلخص تلك الأخطاء الفادحة:
- تعامل اقليم كردستان مع دول العالم كأنه دولة مستقلة خارج السيادة العراقية وغير معنية بالشراكة التي أقرها الدستور بين الشعبين العربي والكردي. حتى وصل غرور القيادة السياسية الكردية إلى درجة إحتقار الدولة العراقية والاستهتار بها عبر تنظيم إستفتاء الانفصال. وكان هذا أول خطأ والذي مهد لأخطاء أخرى، حتى وصل الأمر إلى التعامل مع المواطن العراقي القادم من المحافظات الأخرى كأنه شخص أجنبي يحتاج إلى كفيل للسماح له بزيارة مدن كردستان.
- في وقت تكالبت فيه القيادة الكردية على المكاسب المالية والحصول على مناصب الدولة تغافلت أو نسيت تماما حقوقها الدستورية وبالأخص المادة 140 من الدستور حول تطبيع المناطق المتنازع عليها بين كردستان والحكومة المركزية، مما سيساعد تطبيقها على تعزيز مكانة وقوة الجانب الكردي عبر عودة الكثير من تلك المناطق الكردية إلى سلطة الإقليم ووقف عمليات التعريب الجارية على قدم وساق في هذه المناطق. وكان التفريط بهذه المناطق والتي شكلت نسبة 51 بالمائة من أراضي كردستان بعد معركة غير متكافئة بين البيشمركة وقوات الحشد الشعبي إثر الاستفتاء، هو الخطأ القاتل الذي ما زالت القيادة الكردية تدفع ضريبته عبر خروج مناطق غنية بالنفط من تحت سيطرتها.
- فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية، تعاملت القيادة الكردية مع هذه المسألة بمخالفة صريحة لنصوص الدستور العراقي، ففي الوقت الذي تؤكد المادة (110) من الدستور العراقي على أنه "تختص السلطات الاتحادية بالاختصاصات الحصرية الاتية :اولا:- رسم السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي والتفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية وسياسات الاقتراض والتوقيع عليها وابرامها ورسم السياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية". عملت قيادة الإقليم على بناء علاقات مباشرة مع دول متعددة دون أي تنسيق مع الحكومة المركزية، ووقعت على إتفاقات هي من الإختصاصات الحصرية للسلطة الاتحادية منها توقيع إتفاق نفطي مع تركيا لمدة خمسين عاما، وكذلك إنتهاج سياسة الاقتصاد المستقل عن بغداد عبر تصدير النفط إلى الخارج. أضف إلى كل ذلك التصرف بالعلاقات الخارجية وكأن الإقليم دولة مستقلة وليس جزءا من العراق.
والأهم من ذلك أن هناك دائرة ضمن حكومة الإقليم تسمى (دائرة العلاقات الخارجية) وهي تتعامل كأنها وزارة الخارجية، بل أن رئيسها أراد فعلا أن يقدم مقترحا عام 2021 بتغيير هيكلها من مديرية إلى وزارة قائمة بذاتها في مخالفة صريحة أخرى لنص المادة 121 الفقرة الرابعة التي تنص "تؤسس مكاتب للأقاليم والمحافظات في السفارات والبعثات الدبلوماسية لمتابعة الشؤون الثقافية والاجتماعية والانمائية". وهذا يدل على أن التمثيل الكردي يكون داخل السفارات العراقية وليس خارجها، وتختص فقط بالشؤون الثقافية والاجتماعية والانمائية، وليس بناء علاقات سياسية أو عقد إتفاقات إقتصادية.
هذه المخالفات الصريحة للدستور والتي سكتت عنها السلطة العراقية في الأعوام السابقة بسبب ضعف حكوماتها، أعتقد بأن السلطة الحالية وعبر قرارات المحكمة الاتحادية العليا تحاول تصحيحها. فقد تدخلت هذه المحكمة في الفترة الأخيرة لإصدار قرارات متعددة لتصحيح المسار الدستوري، وأظن بأنها ستستمر بإصدار الكثير من القرارات اللاحقة لوقف التجاوزات على الدستور.
لقد إستردت الحكومة العراقية عبر قانون الموازنة جميع عائدات الإقليم من موارد النفط والضرائب والعائدات المحلية، ولا يستبعد أن تمنع النشاط الدبلوماسي أيضا عن قيادة الاقليم، وقد تسترد أيضا السيطرة على قوات البيشمركة عبر ربطها بوزارة الدفاع خصوصا وأن الحزبين الحاكمين بكردستان فشلا في تحقيق رغبة التحالف الدولي بتوحيد هذه القوات، بل أن الخلافات بينهما تتجه حاليا إلى الانقسام والتمزق مع بروز مشكلة توزيع المناصب العسكرية بين قيادات الوزارة.
وقد يكون وقف الرحلات الجوية عبر مطاري اربيل والسليمانية قبل يومين اختبارا أو بروفة لما هو مخطط للقيام به مستقبلا. فالحجة التي أعلنتها وزارة النقل العراقية بوجود مسيرات في سماء العراق ليست مقنعة تماما لأن المسيرات التركية تجول بسماء كردستان يوميا وتقتل العشرات من معارضيها داخل أراضي كردستان العراق.
على كل حال يبدو أن بغداد تحاول إحكام الطوق على رقبة القيادة بكردستان مما ينذر للأسف بعودة القضية الكردية إلى المربع الأول حين كان الحكم الذاتي لكردستان العراق في عهد النظام السابق مجرد ديكور لخداع العالم بديمقراطية مزيفة لهذا النظام. وهكذا جنت على نفسها براقش.