كلما عاش المرء في خِضَمِّ الحياة العراقية؛ يكتشف المزيد من الألغاز والعجائب و"بلاوي" ابتكار الزيف والفساد، والتفنُّن في صناعة عمران الفساد. هذا الذي ينخر حياة العباد عرضًا وطولاً، ويُحيل الواقع إلى كتلة من نار مُتوهجة تحرق الأخضر واليابس، وتئِد ما يُنجَز من أحلام في الواقع والنفس. وساعد الله هيئة النزاهة في عملها المُضني، تلك التي تسير على ألغام الاحتيالات والابتزاز، وتعبر أنفاق صناعة التزوير والتلفيق والكذب والخداع، وتتعرض لسيوف الأحزاب الفاسدة ومافيات المال الحرام.
والفساد أنواع: فسادٌ كبير (رأسي)، يُدار بالآت ضخمة من قِبَل أجهزة الدولة والأحزاب ورجال الأعمال بملايين الدولارات؛ بل بالمليارات. وفساد صغير (أفقي)، مرتبط بالأفراد، وهو يتحرك بشكل فردي مجهري، في كثير من الأحيان، وهو يتجلَّى في عمليات الرشوة والمحسوبية والابتزاز لنهب أموال الناس وتصفية جيوبهم. لقد أصبح الفساد ثقافة وسلوكًا اجتماعيًّا مقبولاً من المجتمع؛ إذ خرج من حيِّز المسكوت عنه، ثم تعداه إلى حيِّز الإكراه، حتى استقر الآن إلى حيِّز المُباح العلني.
المعادلة تنصبُّ في أن الدولة الفاسدة هي المعلم الأول لصغار الفاسدين؛ حينما يصبح المجتمع مُهيَّأً لتقبُّلِ جيفة الفساد ورائحتها العفنة، والتعامل معه كحقيقة واقعة ومُسلَّمٌ بها؛ هنا يتحول الفساد إلى سلوك يومي؛ فيصبح الفساد دولة تحكم الدولة (الهلامية)، وتقبض عليها مختلف المافيات بقبضتها؛ حيث يصبح التدخل الجراحي مستحيلًا من جميع زواياه، ويأكل الجسد كلَّ خلاياه!
وعندما تسمع قصص هيئة النزاهة ومثابرتها في ملاحقة الفساد بأنواعه، وقصص الناس وحكاياتهم مع الابتزاز والحيَل المبتكرة، وتعيش بعضًا من هذه القصص؛ تشعر بأن اليأس يسطو على ما تبقى من الأمل، ويصبح العيش في الأوطان مذلةً وجحيمًا لا يُطاق.
سترى العجائب في تهريب الدولار؛ وكأنك تشاهد باندهاش فيلمًا بوليسيًّا لا يموت فيه أبطاله إلا بمعجزات خارقة، وسترى فقراء العراق، وما أكثرهم، في مكاتب الصيرفة ضحايا، من دون أن يعرفوا أنهم جزءٌ من المافيات لقاءَ مبالغ هزيلة؛ لكنها تسد بعض رمقهم. وتسافر بتذاكر سفر حكومية صادرة من وكالات أهلية؛ لكنها مسروقة بالملايين من لعبة (الحذف) على الكومبيوتر، حيث تذهب لفريق الفاسدين وليس لخزينة الشعب، حسب وصف أحد النواب!
والفساد لا تقتله هيئة النزاهة فقط، وإنما هي ثقافة مجتمع يتجذَّر فيه الوعي بالظاهرة، والشعور بمهلكة الفساد على الجميع. أما الإعلام الذي ينشغل بمصالِحِه وصفقاته، ويقدم خبرَ راقصة على حادثة فساد معلوم النسب؛ فهو يذبح الناس والوطن بسكين الباطل!
إن المليارات من الدولارات التي ذهبت في جيوب الفاسدين، لم تكن خسارة مادية (ورقية) للفقراء فقط؛ لكنها خلَّفت من ورائها تراكماتٍ من العذاب الأليم، وهدرًا للكرامات، وبنىً تحتية غير قابلة للعيش الآدمي، وخسائرَ في الحياة والروح.
ليس معقولاً أن تعيش في وطن يغرق في أبهة النفط؛ ثم لا تجد شارعًا سليمًا منسقًا يصلح للاستعمال الحضاري، ولا مدرسة تأوي أطفالنا وتحيطهم بأنواع الحنان والتميُّز؛ لأنها متصدعة ومتشققة، أو متهالكة، أو من الطين، وترى بيوت العباد تشكو انقطاع الكهرباء لتلتهب بنار شهر (آب اللهّاب) الذي يحرق المسمار بالباب، وكذلك تشكو تلك البيوت من الظمأ المتكرر في بلاد النهرين، وأن تجد مؤسسات خدمية؛ بناؤها متهالك، وبعضها في كرفانات خشبية، لا تخرج منها إلا بعد أن تُمرِّغ شخصيتك وكيانك الإنساني في التراب!
قبل أيام كنتُ في شرطة مرور الموصل، وجدتُ فيها ما يسُر وما يُحزِن، واكتشفتُ أنني وزوجتي نُعاني من قِصَر نظرٍ بسبب مرآةٍ لعينة من نتاج هذا الفساد المرعب! رغم أن أطباء الإمارات منحونا قبل شهرين تفوقًا في الرؤية؛ (ستة على ستة)، في تجديد فحص إجازة السياقة.
لقد صرتُ اليوم أمتلك إجازة سياقة إماراتية ودولية من دون نظارة، والأخرى عراقية بنظارة: الأولى، اعتمدَتْ على أجهزة إلكترونية متطورة في فحص الرؤية، ولا مجال فيها للفساد. والثانية، اعتمدَتْ على مرايا مُستطيلة ومُتهالكة ومُتموِّجة، تتكئ على أحد الجدران؛ حيث صعوبة التركيز، وفرز الحروف بشكلٍ واضح، مما تُجبرك على الذهاب إلى محل مقابل المرور لصناعة عوينات مطابقة للمرآة الفاسدة؛ حيث هناك فقراء بلادي تنهب جيوبهم بالحق أو بالباطل، وقتها فقط تمنحك وزارة الصحة شهادة مواطن صالح من جنس (زرقاء اليمامة).
هناك القضية الأخرى، وهي سيطرة الأحزاب على المؤسسات الخدمية التي تُدِر ذهبًا من قوت الناس، فقد صُدِمتُ بأن التدريب في المرور تابعة لأحد الأحزاب التي يُعاني قائدها من ضنك العيش، ومن عدم قدرته على دفع الإيجار؟!!. وهو مكتب موظفوه، كشهادة حق، يُقدِّمون العونَ والرعاية والمساعدة للمراجعين؛ لكن سيارات الشركة قديمة، ليس فيها حركة ولا حياة، ولا تُساعد السائقَ على الفوز بالنجاح المُستحَق. وقد اكتشفتُ سرًّا بأن كثرة الحوادث في شوارعنا قد يكون سببه هذا التساهل في الاختبارات البسيطة التي لا ترتقي إلى تأهيل سائق ماهر، يُحافظ على سلامته وسلامة الآخرين!
هناك الوجه الآخر المضيء في مديرية مرور الموصل، بأقسامها المختلفة؛ حيث ارتفاع منسوب الإخلاص والصبر لمنتسبيها مع الناس، رغم الحر الشديد، وانقطاع الكهرباء، ومكاتبهم البائسة من ناحية الأثاث، وفقدانهم لمستلزمات العمل الحديثة، وهم يستحقون بيئة صالحة للعمل ودعمًا ماليًّا، ومبنى عصريًّا؛ غير أنني سعدت بأن هناك مبنىً جديدًا ينتظرهم قريبًا.
ما أثار انتباهي، هو الإدارة الناجحة للعميد سامي عبد الخالق الزيباري مدير مرور الموصل، وهو يتابع منتسبيه برقيِّ المسؤول في تنفيذ الواجب، والجمع بين بساطة التعامل، وانضباط العمل، وكذلك تعامله مع الناس بشكلٍ مدهش، في ثنائية جميلة هي: الإقناع، وحلاوة لغة التخاطب (بعيني، وعلى رأسي)؛ بينما نشر بعض موظفي مكتبه؛ للمتابعة وتقديم المساعدة لمن يحتاجها. ولقد رأيت موقفًا إنسانيًّا للمفوض (أزهر مروان جمعة)، من مكتب المدير، وهو يُساعد كبار السن في أحقية تيسير وإنهاء معاملاتهم أولاً، وقبل الشباب؛ من أجل أن يَقيَهم الحرَّ اللاهب، وضربة الشمس. إنه تعبير إنساني؛ لكنه يُوثِّق لسمعة المؤسسة التي يعمل بها.
رباط الكلام؛ هناك عبثٌ في مال الشعب، وسيول فساد جارفة أقوى من أعاصير التسونامي، وأشد من زلازل هايتي وغانسو والمحيط الهندي؛ حيث الخراب والدمار، وتدمير المعنويات، وقلع الأمل من النفوس؛ فخلاصة حياتنا: خسارة في المال والكرامة، وخراب في الوعي.
[email protected]