إذا كانت جامعات الدول المتطورة ترى أنَّ خدمة المجتمع من أولويَّاتها الأساسية، وتكرّس هذا المفهوم في فلسفتها التعليمية بشكلٍ عمليٍّ وهادف؛ فإن جامعات الدول النامية ما زالت متأخرة في تحقيق هدف تنمية وتحديث مجتمعاتها لأسباب عديدة، تتعلق بنظامها التعليمي، ووظيفتها التقليدية، وافتقار المسؤولين التعليميين لرؤية شاملة تستجيب لمتطلبات عصر الجامعة الاجتماعية.
ولا تقتصر هذه الجامعات المتقدمة على تقديم التعليم الأكاديمي فقط؛ بل يتعدَّاه ليشمل دورًا أكبر في تقديمِ حلولٍ للعديد من التحديات المجتمعية، من خلال مجموعة متنوعة من البرامج والمبادرات التي تستهدف تحسين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وتعزيز الابتكار، وتحقيق التنمية المُستدامة.
عند استعراض تجارب هذه الجامعات، لا يمكننا تجاوُزُ بعضها كمثالٍ وتطبيق. على سبيل المثال، تقوم جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة من خلال مركزها للاستدامة بتعزيز البحث والتطوير في قضايا؛ مثل: تغير المناخ، والاقتصاد الدائري، والحفاظ على التنوع البيولوجي، كما تدعم المجتمعات المحلية في مواجهة التحديات البيئية.
من ناحية أخرى، تسهم جامعة ستانفورد في دعم الرواد الشباب، من خلال برنامج خاص يمثل حاضنة أعمال، تهدف إلى مساعدة الخريجين والطلاب على إطلاق شركاتهم الخاصة. بينما تقوم جامعة هارفارد بتشجيع طُلابها على الانخراط في خدمة المجتمع، من خلال مجموعة متنوعة من البرامج التطوعية؛ مثل: تقديم الدعم للأطفال في الأحياء الفقيرة، والعمل مع كبار السن.
إقرأ أيضاً: مؤلم أن ترى بغداد تغرق؟!
كذلك، تُعد جامعة كولومبيا في نيويورك من الجامعات الرائدة في مجال الصحة العامة، حيث يتناول عملها البحثَ في الأمراض المزمنة والمعدية، وتقديم حلول عملية لتحسين الرعاية الصحية في المجتمعات المحلية والدول النامية. وفي إطار تعزيز الثقافة والتنمية، تسعى جامعة أكسفورد إلى نشر العلم والثقافة في المجتمعات النائية، من خلال تنظيم ورش عمل ومشاريع تعليمية، تهدف إلى تعزيز التفكير النقدي والتعليم في المناطق الأقل حظًّا.
على صعيد آخر، تعمل الجامعة الوطنية في سنغافورة (NUS) على تطوير مشاريع ذكية، تهدف إلى تحسين نوعية الحياة في المدن. ومن خلال الأبحاث والتعاون مع الحكومة والقطاع الخاص، يتم تعزيز أنظمة النقل والطاقة والصرف الصحي؛ مما يسهم في تحسين حياة سكان المدن. أيضًا في جامعة (توكاي) اليابانية، يتم تطوير حلول تكنولوجية تهدف إلى دعم المجتمع في مجالات متعددة؛ مثل: الرعاية الصحية، والنقل، والبيئة. مع التركيز على استخدام التكنولوجيا لتحسين حياة الأفراد في المجتمعات المحلية والمناطق النائية.
عندما نتأمل هذه المشاهد الإنسانية في الجامعات، نجد أنفسنا مندهشين من إنجازاتها، خاصة عند مقارنتها بجامعاتنا التي لا تزال تتعثَّر في حروف (الهجاء) التعليمية التقليدية. لا يزال الكثير منها -ولا سيما الجامعات الأهلية-يعمل على استنزاف أموال أبناء المجتمع بطريقة بشعة، ودون رحمة، حيث يُستغل ذلك لتمويل أصحاب الأموال المحرَّمة وغسل أموال السياسيين. بالمختصر؛ فأن هذه الجامعات تُعد مشاريع استثمارية بحتة -وليست تعليمية-تهدف إلى سرقة جيوب الناس؛ بل تفشل في تقديم تعليم وطني يمتاز بالجودة والرصانة.
إقرأ أيضاً: رمضان آخر زمن
ما زلت مقتنعًا بأن المنظومة السياسية هي التي ساهمت في التخريب المنهجي للتعليم ولحياة المجتمع؛ حيث سمحت بعملية تدمير العقول العراقية، وأدخلت الهوسات العشائرية ورقص الهجع إلى الحرَم الجامعي، بدلاً من أن تشنَّ حملات توعية ثقافية وصحية واجتماعية، مثلما تفعله جامعات العالم من خدمة مجتمعاتها بطرقٍ مبتكَرة.
ومع الأسف، إننا لا نزال نعيش في أوهام السكوبيس التي تنتجها مكاتب الفساد، ونركض وراء التصنيفات العلمية المموَّلة من بعض الدول ودوائرها السريَّة، لا نزال نرى التعليم من منظور المباهاة والمنافسات الدولية الزائفة التي تجعلنا نبعد عن الحقيقة، كلما اقتربنا منها تلاشت. وقد صدق جلال الدين الرومي عندما قال: "لا يمكن إقناع العطشان الذي يركض خلف السراب بأنه يركض خلف الوهم!".
إقرأ أيضاً: التعليم بالذكاء الاصطناعي
إنَّ مجتمعنا لا يحتاج إلى أكاذيب المؤتمرات العلمية التي تم طهيها في قدر الضغط، أو الندوات النظرية التي لا تضيف شيئًا جديدًا سوى زوبعةٍ في فنجان، ولا إلى شهادات تقديرية "كرتونية" تُوزَّع مجانًا على مَن لا يستحقها؛ إنما نحن بحاجة إلى جامعةٍ تتفاعل مع المجتمع، وتستمد منه التجارب؛ لتكون الطبيب المعالج له في أزماته وأمراضه.
عندما ترى نماذج مشرفة لجامعات عراقية كسرت جدرانها الكونكريتية لتتفاعل مع مجتمعها، تشعر بفرحٍ وسعادةٍ؛ لأنك تكتشف الرسالة الحقيقية للجامعة التي يجب أن تكون حاضرةً بقوة. وقد أثارني هذا عندما حضرت -خِلسةً-فعاليات [جامعة النور] في نينوى خلال شهر رمضان المبارك، دون أن أكشف عن هويتي كصحفي؛ شاهدت أنشطة مبهرة تتضمن ثلاث فعاليات مجتمعية في قلب الحركة الاجتماعية في الموصل؛ حيث تمت إقامة أجنحة طبية في ثلاثة مواقع، وهي مهرجان المأكولات الموصلية، والخيمة الرمضانية في الغابات، ومهرجان قناديل رمضان. وقدمت هذه الفعاليات خدماتٍ مجانيةً للأهالي في مجالات (طب الأسنان، والفحوصات المختبرية، والبصريات).
إقرأ أيضاً: أزمة التدريب العملي
كما علمتُ بأن جميع كليات وأقسام الجامعة تضم العديد من الطلبة الذين يستفيدون من الإعفاءات من الرسوم والمساعدات والمِنَح الدراسية؛ لمساعدتهم على إكمال دراستهم؛ مما ساهم في بناء صورة إيجابية للجامعة في عقول أهالي الموصل.
من هنا، أدعو معالي وزير التعليم العالي الذي عرفته بتواضعه وانفتاحه على الأفكار الجديدة، إلى استحداث جائزة الإبداع لأكثر جامعة خدماتية للمجتمع تحت اسم "جامعة المجتمع". فبينما تحتاج جامعاتنا اليوم إلى تحقيق تصنيفات دولية متقدمة؛ يحتاج مجتمعنا -أيضًا-إلى جامعة تُقدِّم خدماتٍ مبتكرةً وإنسانيةً؛ لتقود عملية التطوير والتحديث. إن الجائزة الكبرى هي أن يفوز العراق بجامعاتٍ تنبض بحب المجتمع، وتكون أكثر رحمةً بأبنائه في شفط الفلوس والعقول.