: آخر تحديث

أمي

48
47
52

تمرُّ الأعوام لكنّ القلبَ يأبى أنْ يعترفَ ببلوغ سنِّ النضج، فهو يحنُّ دائمًا إلى هذا الحضن الأول والأخير الذي وحده يلفُّه بالحب الصادق، وبالدفء النقِّي، وبالحكمة.

تمرّ الأعوام وتقف عند هذا التاريخ، 28 كانون الثاني، مع أنَّ كل لحظة من لحظات الأيام التي صنعَتْني هي وقفة لولادة بسمةٍ، لولادة فكرةٍ، لولادة إرادةٍ، لولادة طموحٍ، لولادة مستقبلٍ، لولادة «أملٍ» في جوانيّتي التي نحتتَها أمي بصبرِها، وعطفِها، وَحكمتِها، وَدفئها، وَتفكيرِها الذي انتمى دائمًا إلى المستقبل، وَانطلق مِنْ وَاقع الإنسان، وَلم يعرفِ الحقد أَوِ الغضب، أَوِ النقمة، بَلِ الحُلم وَالمسامحة مَهما كان حجمُ الألمِ الذي تقابله على طرقات الحياة، وَالهموم، وَالمصاعب...

أصوِّرها بِكلِّ الكلمات، وَأرسمُها بِكلِّ ألحانِ القلبِ، وَأَفيءُ إليها مع كلِّ إشراقةِ يومٍ جديدٍ... أستعيدُ بها نبضي، وَأشعر بوجودي، وَأدركُ أنِّي أنا اليقين...
قارَبَ شهرُ كانون الثاني على الانتهاءِ، وَذكرى ميلادِها فيه تُستعادُ بَعْدَ أربعِ سنوَات على الوَداع الأخير. 

كلماتٌ كتبتُها في ذكرى عيد ميلادها العام 2017م.، أستعيدُها اليوم، لكي أقولَ لها أحبُّك أينما كنتِ، رغمَ أني أعلمُ مِنْ نبضِ روحي أنَّكِ ملاكٌ عادَ إلى فيء النورِ الذي يرتجيه!

«اليوم هوَ الثامن وَالعشرون من شهر كانون الثاني، وَفي مثل هذا اليوم في العام 1945 وُلدتْ لرجل وامرأة هما من خير من عرفتْهُم هذه البسيطةُ منذُ أنْ وُجدَتْ، وُلدت ابنةٌ حملَتْ في وَجهها كل الآمالِ، وَكانتْ هي الأملُ الذي بِه تَسَمَّت وَبها عُرف... 

«أملُ» التي كانت اسمًا على مُسمى روحٌ أشرقَتْ، وَقلبٌ تميَّز بِطيبَتِه، وَوَفاءٌ تزيّا بحقيقَتِه، وَعقلٌ نَهَلَ مِنْ حكمةٍ تفكَّرَتْ، وَمعلمٌة لا ملقِّنةٌ ، وَمُربّيةٌ حكَّمَتْ ضميرَها، وَمحبةٌ غمَرَتِ الزرقاءَ وَالأزرقَ وَعلَتْ لمقابلةِ الضيمِ بِالمحبة، وَالإساءةِ بِالمحبة، وَالحسد بِالمحبة ... لأنهَّا في قاموسها لا تعترفُ الاَّ بِالمحبة...

«أمل» هي أمي التي منها أستمدُّ حياتي، «أمل» هي أمي التي مِنْ طيبِها أنْهَلُ وجودي، «أمل» هي أمي وَكلَّ الخير في بقائي، «أمل» هي أمي وَنبضُ قلبي وَشهقاتُ روحي وَقوتي وَنوري وَمُرشدي وَدليلي، «أمل» هي أمي وَأقربُ صديقةٍ إلى نفسي، فأنا كما أخوَاتي وَأخي كتابٌ مفتوحٌ يسألها قراءةَ صفحاتِهِ دائمًا وتنقيحِها وَتصويبِ ما تعثَّرَ فيها...

قالوا أمامي يومًا إنَّ أمهات اليوم لا يمتلِكْنَ سلطة على اولادهن، لكنَّهم نَسَوا أنَّ هذا القول لا يَصْدق على أمي التي تَمتَلك أقوى سلطةٍ في العالم، لكنَّها سلطةٌ لا يُدركونها وَلا يَفقهون ماهيتَها وَلا حدودَها ، لأنَّ سلطتَها هي سلطةُ محبةٍ لا سلطةُ تخويفٍ وَترهيبٍ وَلا سلطةُ «فرّق تسد» وَلا سلطةُ الوقوفِ معَ أحدِ الاولاد وَمساعدتِه على هَدرِ حق شقيقِه أو شقيقِها، وَلا سلطةُ ترهيب وَلا سلطةُ وَعِيْدٍ، فَأمي عندما منَّ عليها الله بِأربعةِ بناتٍ وَابنٍ لَمْ تربِّ أربعةَ إناثٍ وَذكر، لأنَّها أنشأَتْ خمسةَ عقولٍ وَأفئدةٍ، أنشأَتْ فينا الإنسانَ وَلَمْ تلتفِتْ أبدًا لِحدودِ التفرقةِ الجنسيةِ، وَعلمَتْنا أنْ نحترمَ حدودَ الحريةِ الشخصيةِ لِكلِّ وَاحدٍ منَّا، وَلَمْ تَتَعدَّ حتى هي يومًا حدودَ الحريةِ التي علمَتْنا أنْ نحترمَها، فَأُمي لَم ْتكُنْ أُمًا فحسب، بَلْ سيدةً وَأمًا وَسندًا وَصديقةً وَأختًا وَملجأً مِنْ همومِ الدنيا كلِها، وَأمانًا وَدنيا وَدينًا وَيَدًا تدفعُنَا إلى أعلى درجاتِ النجاحِ وَالتألقِ...

أمي أنتِ هوَ الوجودُ وَأنتِ كلُّ أملٍ فيه، رجائي مِنَ اللهِ أنْ يحفظَكَ لنا وَلي، فأنا لا قيمةَ لوجودي إنْ لَمْ يكنْ يدورُ في فَيءِ ظلِّك وَحنانِك وَتسبيحةِ رؤيتِكِ وَسناءِ الجوهرِ البادي في عينيكِ وَفي ملمسِ يدَكِ فوقَ شعرِي...
أحبُّكِ يا أمي وأتمنى لَوْ أَنِّي لَم ْأكبرْ أبدًا لأنَّني لَمْ أشبعْ يومًا مِنْ دفءِ حضنِكِ... »
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في