: آخر تحديث

الجهل الحميد

64
72
49

ما زال العلم ممدوحا، وما زال العالم محمودا،
وما كان الجهل إلا مذمة، وما كان الجاهل إلا وصمة!
هذا ما درجنا عليه، وتعلمناه وعَلَّمناه، وضربنا حوله الأمثال، ورحنا نردد :
 «العلم نور، والجهل ظلام»

لازلنا نحفظ:
«العلمُ يَرفَعُ بيتًا لا عمادَ لهُ
والجهلُ يَهدِمُ بيتَ العزِّ والشرَفِ»
ثمة جهل لا بد منه.. جهل حميد يمنحنا الراحة، ويعيننا على مواجهة أعباء الحياة!
قد تعجبون كيف يكون للجهل هذا النفع! ولكنه الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه.. 
ثمة جهل أنفع من العلم..
 



إنه الجهل بالنيات، والجهل بما في قلوب البريات، والجهل بالغيبيات، فما حجبها الله عنا إلا لأن في حجبها صلاحنا وفلاحنا، ولو كان في العلم بها خير لكشفها لنا، أو خَصّ بكشفها بعضنا، ولكنه أسدل عليها ستارًا كثيفًا لتظل الحياة أكثر جمالًا وإثارة.
جهلك بما تضمره النفوس البغيضة والقلوب المريضة خيرٌ لك من العلم بها،والانزعاج مما تصطبغ به من قتامة.
جهلك بالعقبات التي ستواجهك في طريقك يعطيك فرصة للتعامل معها عقبة عقبة.. كل عقبة وحدها دون أن تحملها كلها على عاتقك في آن واحد.
جهلك بما هو مقدَّر لك في المستقبل يمنحك لذة التجربة، وفرصة الاكتشاف.
جهلك بخسارتك في مشروعك يعطيك خبرة وقوة.
هو جهل يعلمك من حيث تدري ولا تدري فلسفة الحياة والنجاح؛ فنحن البشر جبلنا على تصديق التجارب التي نتألم منها أكثر من تصديق النصائح التي تأتينا مغلفةً معلبةً جاهزة.
جهلك بما يسوؤك يفتح لك باب الأمل لتوقع الأفضل.. 
جهلك ببغض من يبغضك يدفعك لمداراته، والإحسان إليه، فإما كف أذًا عنك، وإما حماك الله منه ببركة إحسانك، وزادك خيرا على خير، وقوة على قوة.
لو كُشِفَت الحُجُب لانقطع الإحسان بين الناس، ولك أن تتخيل أنك بين أناس تغلب عليهم الأنانية والنفوس المريضة، فقل لي كيف تتقبلهم، وكيف تحيا بينهم وهم موبوءون بأسقام القلوب؟!
يُنسب للفاروق رضوان الله عليه قول مأثور يكشف طبائع الكثير من النفوس والناس إذ قال :
«لو اطَّلَعَ الناس على ما في القلوب، لما تصافحوا إلا بالسيوف».. 
عبارة فيها من الوعي المبكر بلُبّ ما تضمنته كتب علم الاجتماع والنفس.
تخيل أن إنسانًا يعلم موعد موته، فأي حياةٍ سيحياها؟ وكيف يستطيع البناء والنماء وهو يرى نهايته تلوح بين عينيه، وتقترب منه يومًا بعد آخر؟!
إنه الجهل الحميد الذي يحجب ما بين الإنسان وعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله …
من رحمة الله بنا أن جعل تلك الحجب بيننا، ولو كان في العلم بالغيب مصلحة لكشف سبحانه الحجب عن الرسل .
فها هو موسى يسأل الخضر،
وها هو عيسى يخفى عليه ما يخفى،
وها هو نبينا محمد ينفي عن نفسه علم الغيب … مع أن الله عز وجل خصهم بالكثير من الكرامات والمعجزات.. إلا علم الغيب.
إنه علم حصري لا يكون إلا لله، ولا يليق إلا به؛ فهو الحليم الذي لا يستعجل عقوبته، وهو الكريم الذي لا يحبس نفعه، وهو الغفور الذي لا تضجره السيئات، وهو القادر الذي لا يعجزه شيء، وهو الرحيم الذي شملت رحمته المؤمن والكافر، والبر والفاجر..
له وحده علم الغيب والشهادة، وما كان ويكون وسيكون، ولولا هذا العلم لآل أمرنا إلى شتات،
أفعاله عز وجل كلها حكمة تصدر من حكيمٍ مطِّلع، مقدِّر مدبِّر، ونحن الضعفاء البارعون في الضعف..
نظرتنا كانت وستظل ناقصة قاصرة مهما اعتقدنا كمالها أو حتى وضوحها؛ فمهما تقدم بنا العلم نظل كما أشار الأعلم الأحكم: ما أوتينا من العلم إلا قليلا.

افخر بعلمك مرة، وافخر ونادِ في النّاس بجهلك بما في القلوب والغيوب مئات المرات.
جهلٌ حميد فاخرِ الناس به ولا حَرَج.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي