ثمة شبه اجماع بين الكثير من المختصين في شؤون التربية وعلم النفس من جهة، وخبراء التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي من جهة ثانية، على ان عصرنا الحالي الذي يوصف بانه رقمي " للنخاع " و " بامتياز " قد ساهم في احداث تغييرات جوهرية في العالم لا تتعلق بمظهره المادي الصادم او نتاجه التقني الخطير فحسب، بل، حتى في اعادة صياغة المفاهيم والافكار وتغيير طريقة النظر والتعامل مع العالم الذي نعيش فيه.
خريطة التغييرات التي اجتاحت عالمنا وترسبت في حيثيات حياتنا وتفاصيل واقعنا كانت متعددة الاصعدة ومتنوعة التوجهات ومتشعبة المسارات والعلاقات، لدرجة باتت معها المعالم الجديدة للحياة، في ظل انعكاساتها الرقمية، متناقضة مع النموذج الكلاسيكي المعتاد لها الذي تداعت صورته وتهشّم بناءه وسقط على رؤوس من لازالوا متمسكين به وينظرون للعالم من خلاله ووفقا لمعاييره وأطره الضيقة.
اعادة ترسيم خريطة القيم وتشكيل هوية الانسان الشخصية و تغيير علاقته مع العالم وخلق خيال وواقع جديد يوازي الواقع الحقيقي هي احدى اهم التجليات التي رافقت انغماس الانسان في هذا العالم الافتراضي، وغرقه في مُنتجاته التقنية، وولعه بتطبيقاته الرقمية التيتحتل هاتفه بحسب تحليل هوارد جاردنر و كاتي ديفيس في كتاب جيل التطبيقات الالكترونية الذي سلط الضوء على اثر التكنولوجيا عموما والتطبيقات الرقمية خصوصا على تفكير وحياة الشباب.
اذ مع قضاء الانسان عدة ساعات متسمرا امام هاتفه الذكي او اجهزته المحمولة، ومع انتقالهمن تطبيق الى اخر في هذا الهاتف، انقلبت المعايير واختلفت اسس تلقي المعلومة والحصول عليها وتبدلت مبادئ التربية التقليدية للجيل الجديد الذي امسى لا يكتفي ولا يُسلم عقله بسهولة لأجوبة السرديات الكبرى التي اكتسحت التفكير القديم ورسمت معالمه بكل جلاء.
ونتيجة لذلك، او بسبب ذلك، يقع في خطأ كبير ووهم ساذج كل من يحاول التفكير بطريقةكلاسيكية او اسقاط متبنياته القديمة وهو يحاول تفسير سلوك الجيل الجديد، ومن ضمنهم من يتظاهرون حاليا في العراق، وهو ثيمة مقالنا، بل من يفعل ذلك يرتكب خطيئة كبيرة وهواستخدام ادوات ومفاهيم قديمة في تحليل سلوكيات هؤلاء الشباب، الذين استقوا معلوماتهم من تطبيقات الهواتف الذكية وبرامج والعاب الحاسوب اكثر من تعليمات الآباء ومدارسهم التقليدية وما فيها من طرق ونماذج تفكير تُعلم الطلاب معارف ماقبل العصر الرقمي .
شباب الجيل الرقمي الحالي الذي ينتقل من تطبيق لأخر ومن موقع تواصل اجتماعي لأخرعلى هاتفه خلال ثوان معدودة، يشكلون ظاهرة بدت بوضوح تكشف عن نفسها في الكثير مندول العالم، حيث استطاعت مواقع التواصل وتطبيقات التراسل الفوري ان تؤثر على حركةهؤلاء الشباب وتحدد مساره، وترسم خريطة تحركاته، وعلى نحو ادى الى ان تكون موضوعاً يستحق الدراسة وتسليط الضوء عليه من قبل الباحثين المهتمين في هذه الموضوعات.
تشير البروفسورة في جامعة تكساس ريو غراند فالي السيدة مونيكا كلوا لوسادوا والاستاذفي جامعة بيرنغهام دافيد بايلي، في مقالة "التكنولوجيا تُغذي مستقبل العصيان المدني"، الىحالة جديدة تتعلق بالتظاهرات التي حدثت في العالم في الفترة الاخيرة، اذ ان الاحتجاجات التي حدثت في تشيلي واسبانيا وكذلك في لبنان قد كشف عن منهج جديد في كيفية تعاطي المحتجين الشباب مع هذه التظاهرات وجميع ما يتعلق بتحركات الشباب المنتفض على واقعه والرافض لسلوكيات حكوماته في هذه الدول.
المنهج الجديد يتركز في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف منصاتها من جانب المتظاهرين في الدعوة للتحشيد ومعرفة اماكن التظاهرات وتحديد مواعيدها وتسويق بياناتهم ونشر الفيديوهات والاغاني الحماسية وتوثيق الانتهاكات التي تحصل بحق المتظاهرين ورصدكل مايجري في التظاهرة من تفاصيل دقيقة من خلال عشرت الصفحات التي تم انشاءها لهذاالغرص بالاضافة الى قنوات التيلغرام ومجموعات الواتساب التي ساعدت على التسويق للتظاهرات والترويج لما يحدث فيها.
هل عالم الهواتف الذكية ومواقع التواصل الواسعة الانتشار الذي نعيش فيه حول العصر الحالي الى عصر من الاضطرابات المدنية ؟ سؤال وجهته الكاتبة ناتاشا لوماس في احدى بحوثها للكشف عن مدى اثر استخدام الهواتف واللجوء الى مواقع التواصل بالنسبة للشباب المحتج وما يترتب على ذلك من تظاهرات واحتجاجات تتسم بالطابق المدني لكنها تقوم بتغيير خريطة المعادلة السياسية و قد تقلب الطاولة على العملية السياسية في البلد التي تندلع فيه هذه الاحتجاجات.
وفي نموذج ما حدث في اقليم كاتالونيا في اسبانيا قبل عدة ايام، مثال صارخ تطرق له الكثيرمن الباحثين بشيء من التفصيل لانه يُلقي مزيدا من الضوء حول تأثيرات العوالم الرقمية علىما يحدث حاليا في العالم .
قبل عدة ايام اشتعلت اوار التظاهرات في اسبانيا وبالتحديد في اقليم كاتالونيا وبعدها انتقلت الى مدن اسبانية اخرى وذلك بعد قرار محكمة إسبانية، في 14 من تشرين الاول، ادى لسجن تسعة من زعماء الانفصاليين في كاتالونيا، وكان التظاهرات تضم عدة حركات وتوجهاتشعبية وسياسية، ومن ضمن هذه التوجهات كان هنالك شبكة رقمية غامضة يطلق عليها اسم تسونامي الديمقراطي Tsunami Democratic.
المراقبون يؤكدون ان من يقف وراء تسونامي الديمقراطي شباب محتجون علي الوضع السياسي وفي نفس الوقت يجيدون استخدام التكنولوجيا وتطبيقات التراسل ومواقع التواصل، حيث حرضت هذه الشبكة الرقمية على عدة مظاهرات احداهما وصلت ل 10 الاف في مكان واحد، وكل مايفعلوه يقومون باطلاقه وتنظيمه علي الانترنيت تماما بشكل لافت لانتباه الجميع بالرغم من عدم معرفة من يقوم وراء هذه الحركة الشبابية بحسب الكاتبة لوريا كلارك، حيث تحاول السلطات الاسبانية معرفة من يدير التطبيق وقامت باغلاق الموقع الالكتروني له كجزء من محاولاتها في الحد من تأثيره.
المنظمة لديها حساب على تويتر وقناة على التيلغرام يضمان حوالي 500 الف متابع، كما انها اطلقت تطبيقا قام بتحميله بعد اطلاقه باربع ايام 270 الف شخص، حيث اعلنت عنه الشبكةمن خلال قناة التيلغرام، والتطبيق غير متواجد في متاجر ابل ستور والاندرويد وانما يتمتحميله من خلال طريقة APK ، ثم ينصب للهاتف الذي يعمل بنظام الاندرويد، اما هواتف الايفون فمن غير الممكن تحميل امثال هكذا برامج .
هذا التطبيق العائد للشبكة يُستخدم بطريقة ذكية من قبل القائمين عليه ومن يديرونه ، حيث اشار العديد من المحللين الى ان المتظاهرين المتجمهرين يستخدمون هذا التطبيق في تحديد تواريخ مظاهراتهم وتوجيه حركتهم وتنقلاتهم وكيفية تجمعهم في امكان معينة وعلى نحو فاق التوقعات>
وعلى الرغم من اعجاب "لوسادوا وبايلي " بنموذج تجربة متظاهري اسبانيا في هذا الصدد والتي اعتبراها نموذج لكيفية استخدام التكنولوجيا في الاحتجاجات، فان تجربة جيل الشباب الحالي في العراق" وهو جيل رقمي بامتياز" نموذج آخر يُجسد اثر العالم الافتراضي على مجريات السياسة ودهاليزها، ولعلها تتفوق على تجربة الشباب الاسباني خصوصا مع خدمة الانترنيت المتردية في العراق، فضلا عن الانقطاع التام للشبكة التي عانى منه المستخدمون والمتظاهرون على حد سواء.
فقد اوضح فريق مركز الاعلام الرقمي بان التظاهرات والاحتجاجات التي يشهدها العراق منذ اكثر من شهر، في بغداد ومعظم محافظاته الجنوبية، قد كشفت عن استخدام المتظاهرين، بشكل كبير، لمنصات التواصل الاجتماعي، كما انهم استعانوا بتطبيقات التراسل الفوري مناجل التسويق للتظاهرات ونقل احداث مايجري فيها الى المستخدمين الاخرين سواء داخل العراق او خارجه .
واشار المركز ، في تقرير مفصل تضمن حوارات مع بعض المتظاهرين والمغردين نُشر السبت 14 من كانون الاول الجاري، الى ان الناشطين قد تعاملوا مع منصات التواصل وتطبيقات التراسل الفوري بطريقة احترافية الى حد ما ، واستطاعوا بواسطة الهاشتاكات التي اطلقوها، والنداءات الكثيرة من خلال منشوراتهم التي ملئت الصفحات من تحشيد الآلاف وخلقرأي عام محلي ودولي مساند لهم.
طريقة التعامل المحترف مع الهاشتاك، من خلال اختيار اسماء دقيقة ومعبرة، وتوصل رسالةواضحة وحاسمة، والسعي لجعل هذه الهاشتاكات تتصدر ترند تويتر، والوقوف بوجه ترويج هاشتاكات من دول مجاورة تسعى لاحداث فوضى وبلبلة وتهدد السلم الاهلي، كل هذا اصبح ميزة للمغردين العراقيين وطريقة نشرهم ، وقد ظهر ذلك بكل وضوح في هاشتاكات " #نريد_وطن "و" #نازل_اخذ_حقي " وغيرها من عشرات الهاشتاكات التي تصدرت الترند وبعضها كان باللغة الانكليزية وتصدر الترند العالمي.
كما ان المحتجين قد واجهوا حالة قطع الانترنيت وضعف الشبكة بطرق مختلفة، حيث كان بعضهم يسجل كل الاحداث وحال رجوع النت يقوم بنشرها في مواقع التواصل، كما انبعضهم كان يتصل بمن لديهم انترنيت سواء في الخارج او في اقليم كردستان من اجل ان ينقلله اخر المستجدات والاحداث، بالاضافة الى قيام بعضهم برفع محررين ( ادمنية ) لصفحاتهممن الأشخاص الذين يعيشون في خارج العراق او في الاقليم من اجل ان يقوموا بالنشر المتواصل وبالاعتماد على مسجات الاتصال.
وبرغم حالة الاستهزاء به والتقليل من قيمته، في بداية التظاهرات، استطاع هذا الجيل الجديدان يُفاجئ الطبقة السياسية في العراق، ويكون محل اعجاب العالم من خلال إصراره على طلباته وثباته على اهدافه واستمراريته بسلميته التي كانت ولاتزال وستضل اهم عوامل قوة التظاهرات التي ازدادت وتيرتها واتسعت مدياتها وتعاظم نفوذها بسبب احترافية المتظاهرين العراقيين في تعاملهم مع مواقع التواصل وتطبيقات التراسل.
وبسبب هذا الاستخدام المكثف لمواقع التواصل من قبل التظاهرين، اطلق الباحثان لوسادوا وبايلي على هذا النوع من التظاهرات باحتجاجات التكنولوجيا الفائقة High-tech protests حيث التقنيات وادواتها تتحكم بسير الاحتجاجات وفي اماكن وتحركات المحتجين>
باحث في مواقع التواصل

