: آخر تحديث

الاستقالة الرقمية

89
95
97
مواضيع ذات صلة

فاجئ وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف، العالم، مساء الاثنين الماضي، بتقديمه استقالته من منصبه المهم الذي كان فيه ظريف، وهو مهندس الاتفاقي النووي، يُحظى بدعم مباشر من مرشد الثورة الايرانية، بل هو “الرجل الوحيد المسؤول عن ملف السياسة الخارجية في البلاد” بحسب عبارة اللواء قاسم سليماني. 

الملفت للانتباه في هذه الاستقالة، والذي قد يعادل قرار الاستقالة نفسه، هي انها لم تكن استقالة كلاسيكية، كالتي نراها في الاستقالات المتعارف عليها في الفضاءات السياسية والدبلوماسية، بل كانت من خلال اللجوء لاحدى اهم المنصات الرقمية في العالم وهي الانستغرام، وعلى نحو دفعنا لاطلاق عبارة " الاستقالة الرقمية " على ماقام به الوزير ظريف. 

استقالة ظريف" الانستغرامية " سببت صدمة واضحة لدى الاوساط الايرانية الرسمية والشعبية على حد سواء، وقد تجسدت هذه الصدمة في حجم التفاعل مع المنشور الذي وصل، بلغة الارقام الظاهرة، في لحظة كتابة هذا المقال، الى اكثر من 125 الف تعليق و 171  الف اعجاب، من مستخدمي هذا الموقع المُحبب للايرانيين. 

ومع ان حساب الوزير رسمي وموثق من جانب  الانستغرام ويتابعه اكثر من 723  الف شخص ، الا ان قرار الاستقالة غير المتوقعة وعلى هذه المنصة ادى الى التشكيك به، وعدم التصديق بمضمونه من جانب غالبية الايرانيين، ولذا رجِح الكثير منهم، في بادئ الامر، ان يكون حساب ظريف قد تم اختراقه، فانتظروا خبرا آخرا من مصدر رسمي يمكن ان يُبدد الشك الذي ولدته الاستقالة الرقمية، وفعلا لم يتاخر الخبر ، حيث اكد متحدث باسم الخارجية الايرانية ان حساب انستغرام الوزير ظريف هو حقيقي ولم يتعرض للاختراق، ما يعني ان الاستقالة حقيقية ! 

استقالة مثل هذا النوع على منصة فيها ملايين الايرانيين اقتضت منطقيا ان يتم الرد عليها او توضيحها عبر نفس المنصة التي انتشرت فيها، او على الاقل في نفس الفضاء الافتراضي التي انطلقت فيه الاستقالة، لذا قام محمود واعظي، وهو مدير مكتب الرئيس الايراني، بتخفيف حدة التوتر الذي حدث بسبب قرار ظريف، وكتب على حسابه في تويتر : نفند بقوة انباء قبول استقالة الدكتور ظريف من قبل رئيس الجمهورية.  

الانستغرام بالنسبة للشعب الايراني يُعد من المنصات الرقمية المهمة التي يقضون فيها يوميا عدة ساعات، فهم يحتلون المركز السابع في دول العالم الاكثر استخداما للتطبيق بعد الولايات المتحدة الاميركية والبرازيل واندنوسيا والهند وتركيا وروسيا، ولديهم، بحسب الاحصائيات الرسمية الاخيرة لبعض مراكز الدراسات،  24 مليون مستخدم، اي حوالي ثلث الشعب الايراني، بل ان الموقع يحتل المركز السادس في ترتيب المواقع الاكثر استخداما من قبل الشعب الايراني. 

كما تتواجد على هذه المنصة حسابات رسمية للعديد من المسؤولين والشخصيات السياسية والدينية الايرانية مثل المرشد الاعلى ( 2.4 مليون متابع) والرئيس الايراني ( 2.2 مليون متابع)  ونائبه ونائب وزير الخارجية ووزير الاتصالات ونائبة الرئيس ورئيس مجلس الشورى ووزير النفط وغيرها من الشخصيات علما ان حساب الرئيس ووزير الخارجية ووزير الاتصالات هي الحسابات الوحيدة الموثقة رسميا من جانب الانستغرام. 

وبسبب هذه المكانة التي يحتلها الانستغرام بالنسبة للشعب الايراني , جاء منشور استقالة ظريف على هذه المنصة الذي يتابعه فيها اكثر من 700 الف شخص وليس على منصة تويتر على الرغم من متابعته من جانب مليون و100 الف شخص، اذا ان الايرانيين يفضلون الانستغرام على تويتر الذي يتعرض لحجب واغلاق. 

ان الاستقالة التي قدمها ظريف تسلط الضوء على نموذج جديد من الاستقالات في العصر الحالي وهي ما اطلقت عليها الاستقالة الرقمية، اذ لفتت الانتباه الى اهمية مثل هذا النمط من السلوك من ناحية ان صاحبه سيتمكن من خلاله معرفة رد فعل المستخدمين (الجمهور )  على الاستقالة، فضلا عن خلق رأي عام ضاغط باتجاه تأييد القضايا او الموقف الذي يطرحه صاحب الاستقالة، ناهيك عن شحن مشاعر الاخرين وكسب تعاطفهم، كما انه سيسمح، بالإضافة لذلك، لخلق تفسيرات عديدة لما حدث من اسباب ادت لتقديم الاستقالة، وبالتالي ستكون النتيجة في صالح ظريف وهو الرابح فيها بكل معاني الربح السياسية، وهذا الامر ليس بغريب على شخصية مثل ظريف اجاد، بذكائه، استخدام الاستقالة الرقمية مثلما هو بارع في الدبلوماسية الرقمية. 

الاستقالة الرقمية، التي رأيناها في تصرف ظريف، هي  جزء من الدبلوماسية الرقمية Digital diplomacy التي  تُعد وجه وامتداد اخر للدبلوماسية بمعناها التقليدي، فهي مصطلح ومفهوم جديد انبثق في ظل الثورة التقنية ليعني كل نشاط وسلوك ، تقوم بها الخارجية وممثليها من السفراء على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة ( فيسبوك-تويتر-انستغرام وغيرها)، من اجل التعبير عن مواقف البلد وارسال الرسائل المختلفة وتوجيه الراي العام وبما يؤدي لتحقيق المصالح العامة. 

الاهتمام بمفهوم الدبلوماسية الرقمية واهمية دورها لدى العديد من الدول  ادت الى قيام دولة مثل الدنمارك بتعيين كاسبر كلينج كسفير  " تكنولوجي " في مقر اكبر الشركات التقنية والتواصل الاجتماعي في العالم وهو وادي السليكون بسان فرانسيسكو من اجل التواصل معها، والبحث عن استشارات ونصائح تتعلق بحماية المعلومات والامن الرقمي والقضايا الاخرى المتعلقة بهذا المجال. 

العالم يتغير بشكل جذري، والاحداث فيها تتسارع، والادوات التي نتعامل بها معه تتحول،طبقا لمقتضيات العصر الجديدة، من شكل لاخر ، وما الاستقالة الرقمية الا وجه من وجوه انعكاسات العالم الرقمي على العديد من الظواهر في عالمنا. 

باحث في مواقع التواصل الاجتماعي 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي