شهد قصر قرطاج يوم الجمعة الثالت عشر من الشهر الجاري حفلا بهيجا آحتفاء بمرور 60 عاما على ميلاد الديبلوماسيّة التونسيّة. ولعل الرئيس الباجي قائد السبسي فعل ذلك لغرضين أساسيين.الأول هو إبراز المكانة المهمة التي تحتلها الدبلوماسية في السياسة التونسية منذ الإستقلال وحتى هذه الساعة.
وفي الكتاب الذي الفه عن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ،يروي الرئيس قائد السبسي الذي كان وزيرا للخارجية وسفيرافي السبعينات من القرن الماضي، أنه تلقى أول درس في السياسة الخارجية وهو طالب شاب يدرس الحقوق في باريس .حدث ذلك عقب الخطاب التاريخي الذي ألقاه الوزير الأول الفرنسي منديس فرانس في تونس صيف عام 1954 معلنا عن آستعداد فرنسا منح تونس آستقلالها الداخلي. وبموجب ذلك تمّ اطلاق سراح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي كان منفيا في جزيرة"غروا" ليلتقي في العاصمة الفرنسية جمعا من الطلبة الوطنيين.
وخلال النقاش معهم، أثيرت قضية الحرب الكورية التي ستفضي في نهايتها الى تقسيم كوريا الى شطرين.ولما لاحظ الزعيم بورقيبة أن مواقف الطلبة التونسيين كانت تتوافق في جلها مع المعسكر الشيوعي بقيادة ما كان يسمى بالإتحاد السوفياتي، آستشاط غضبا،وقدم عرضا مستفيضا رسم فيه الخطوط العريضة للصورة التي ستكون عليها الدبلوماسية التونسية بعد حصول البلاد على آستقلالها منتصرا للمعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى مدى العقود الثلاثة التي حكم فيها تونس لم يحد الرئيس بورقيبة عن هذا التوجه. وكذا جميع وزراء الخارجية الذين آختارهم.وكان رفيقه في النضال المنجي سليم أول هؤلاء.
وكان يتميز بالصبر والهدوء، وبمهارة فائقة في الإشراف على أعسر المفاوضات وأخطرها.لذلك نشرت مجلة "التايم" الأميركية صورته على غلافها بعد إشرافه على مداولات الأمم المتحدة في نيويورك في خريف عام 1960، أي عندما كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي قد بلغت حدا ينذر بانفجارات جسيمة. ولم يكن الدكتور الصادق المقدم يختلف عن المنجي سليم.فقد كان هو أيضا يتحلى بالرصانة والصبر والفطنة لتشهد الدبلوماسية التونسية في عهده نجاحات باهرة على المستوى الإقليمي والعربي والعالمي.
وكان محمد المصمودي دبلوماسيا بارعا هو أيضا. وكان يحظى بإعجاب وتقدير الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال ديغول. غير أن بورقيبه فصله نهائيا من منصبه بعد أن "ورّطه" في مشروع الوحدة مع ليبيا في اواسط السبعينات من القرن الماضي.ولا يزال التاريخ يذكر مواقف الزعيم التونسي الواضحة والصريحة اتجاه القضية الفلسطينية،واتجاه الوحدة المغاربية.وتبدو انتقاداته لسياسة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر صائبة الى حد كبير.
ولم يختلف الرئيس زين العابدين بن علي مع سلفه في التوجهات الكبرى للدبلوماسية التونسية.بل أنه تمكن من أن يخفف من حدة الخلافات بين تونس وليبيا، وأن يحافظ على علاقات تونس المتميزة مع الدول الغربية غير أن سياسته الداخلية سرعان ما أفسدت هذه العلاقة .
وخلال السنوات الماضية، شهدت الدبلوماسية التونسية تعثرات خطيرة خصوصا لما عين على رأس وزارة الخارجية رفيق عبد السلام، صهر راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، الذي آرتكب اخطاء فادحة تحولت الى نوادر على ألسنة التونسيين. فقد أظهر انه لم يكن يعرف طول الشريط الساحلي التونسي،ولا عاصمة تركيا. ولا الموقع الجغرافي لجزر القمر. وفي برنامج تلفزيوني شاهده الملايين، خلط بين آية قرآنية وقولة للجاحظ! ورغم إقامته الطويلة في لندن، فإنه لم يكن يحسن الكلام بلغة شكسبير. ولم يكن الرئيس المؤقت محمد المنصف المرزوقي يختلف عن رفيق عبد السلام.
فقد "كان يخبط خبط عشواء" في مجال السياسة الخارجية مرتكبا اخطاء شوهت الديلوماسية التونسية،وحادت بها عن توجهاتها المعروفة، وحطت من هيبة الدولة في أكثر من مناسبة. ولعل الرئيس قائد السبسي رغب من خلال الإحتفال المذكور أن يعيد للدبلوماسية التونسية آعتبارها،ويضعها على السكة التي رسمها لها الزعيم الراحل بورقيبة.
أما الغرض الثاني من الإحتفال فهو على ما يبدو يرغب في فتح الباب أمام مصالحة وطنية تنهي الأزمات الخطيرة التي تتخبط فيها تونس راهنا.لذلك حضر الإحتفال كل وزراء الخارجية والسفراء والقناصل الذين عملوا في عهد بورقيبة وبن علي، وأيضا في الفترة التي حكمت فيها "الترويكا" البلاد بزعامة حركة النهضة.ولم يكن من الغريب أن يكون عبد الوهاب عبد الله،مهندس السياسة الداخلية والخارجية في نظام بن علي من بين ضيوف قصر قرطاج المبجلين.وفي مواقع التواصل الإجتماعي نشرت له صورة وهو يصافح أحد ضباط الامن في مدخل القصر. ولعل هذا يوحي أن الرجل الذي أدخل الى السجن في عام 2011 بسبب الادوار الخطيرة التي لعبها في عهد النظام السابق لم يعد مغضوبا عليه خصوصا بعد أن اثبتت التحريات القضائية أنه بريء من كل ما يتصل بالرشوة والسرقات الماليه وغيرها من القضايا. كل ما في الأمر أنه ظل وفيا للتوجهات السياسية التي تربى عليها منذ بداية مسيرته السياسية في عهد بورقيبة وربما حتى هذه الساعة.
فهل يكون الإحتفال بمرور 60 عاما على ميلاد الدبلوماسية التونسية فاتحة لمصالحة وطنية شاملة تضع حدا للصراعات القائمة راهنا،وتتيح للتونسيين فرصة جديدة لإعادة بناء بلادهم التي خربتها خلال الخمسة أعوام الماضية، الانقاسامات العقائدية والأيديولوجية لتصبح مهددة بمخاطر جسيمة قد تعصف بكل أحلام وآمال أبنائها.