شهدت الساحة الدولية خلال الأيام القليلة الماضية هزات عنيفة،بفعل صعود المرشح الرئاسي "دونالد ترامب" إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة. و لقد تباينت مواقف الدول تجاه هذا التحول الغير متوقع الذي شهدته أمريكا، و سادت حالة قلق و ترقب لما ستتمخض عنه أجندة السيد "ترامب" و إدارته ، و إذا حاولنا أن نصف الموقف الدولي فسوف نجده مقسما إلى قسمين ؛
القسم الأول: مواقف الدول القوية عسكريا و اقتصاديا و يضم روسيا و الصين و دول أوروبا الغربية شر آسيا، فهذه الدول و إن تباينت مواقفها إلا أنها تريد من الإدارة الأمريكية أن تتخذ مواقف لا تضر بمصالحها و إذا ما انحرفت عن المسار فهي بدورها لها قدرة على الرد.
القسم الثاني: موقف باقي البلدان النامية كدول أمريكا اللاتينية و إفريقيا و التي لازالت خاضعة للتأثير الأمريكي، نتيجة للوضع الداخلي الغير مستقر أو الحاجة الاقتصادية للسوق الأمريكي، وأهم موقف بداخل هذه الكتلة هو موقف البلدان العربية و الإسلامية...التي على رأس أنظمتها هذه الأيام الطير خوفا و طمعا من صكوك "ترامب" التي توزع العقاب و الغفران، فهذه الأنظمة تحاول التودد له و لإدارته لعلها تكون في لائحة المرضي عليهم...و سنحاول في هذا المقال أن نستعرض لأبعاد الموقف العربي و الإسلامي، و البدائل المتاحة للتصدي للابتزاز و الغطرسة الأمريكية..
مبدئيا، البلدان القوية لم و لن تنزعج من صعود "ترامب" أو غيره،فهي تدرك أن لديها من الأوراق ووسائل الضغط ما يمكنها من تليين إرادة "ترامب" و إيقافها عند حدها لاسيما في حالة التهديد بالقوة.فمن الصعب على الولايات المتحدة أن تهدد الصين أو روسيا أو تهدد مناطق نفوذهما أو مجالهما الحيوي و نفس الأمر ينطبق على أروبا وباقي الدول القوية اقتصاديا و المتماسكة سياسيا و اجتماعيا .
لكن التهديد الصريح يوجه اساسا للبلدان العربية و الإسلامية باعتبارها من جهة الطرف الضعيف حاليا في الساحة الدولية،وباعتبارها من جهة أخرى مفتاح أساسي في السياسة الدوليةلمعظم القوى العظمى، و ذلك بفعل العوامل التالية :
- العامل الجيوستراتيجي : المنطقة العربية و الإسلامية توجد في مركز العالم، و التحكم في هذا المركز يمكن القوة العظمىالمتحكمة من فرض شروطها على باقي القوى الدولية..
- العامل اقتصادي: المنطقة غنية بالموارد الطبيعية الضرورية لحركة الاقتصاد العالمي ، العامل الثقافي
- العامل الثقافي :المنطقة حامل لحضارة مغايرة للحضارة الغربية ذات التوجه الليبرالي فبعد فشل الأطروحة الشيوعية واكتساحالقيم الليبرالية لأغلب أقاليم العالم، فإن المنطقة العربية والإسلامية لم تستسلم للوافد الجديد بل لازال هناك تيار قوي بداخل هذه المجتمعات يرى في المنظومة الثقافية البديل للمنظومة الثقافية الغربية..
فهذه العوامل التي من المفروض أنها نقاط قوة بيد أهل المنطقة، أصبحت بفعل غياب إدارة إقليمية رشيدة لمكونات القوة، جعل المنطقة شبه فارغة ومفتوحة لكل ابتزاز أجنبي، و إصرار"ترامب" على إرسال تهديداته للمنطقة الغرض منه الحصول على المزيد من المكاسب، إنها عقلية "رعاة البقر" و "عقلية القراصنة" التي لاتحترم إلا الأقوياء.
وفي الحقيقة لايهمنا كثيرا موقف "ترامب" و تأثيره على المنطقة ، لكن ما يهمنا أساسا هو الوضع الحالي لأغلب البلدان العربية، هذا الوضع المفكك و المتأزم الذي جعلها عرضة للابتزاز المتوالي. إنموقف البلاد العربية و الإسلامية على وجه العموم، هو تجسيد للمثل الشائع " أُكِلْتُ يوم أكل الثور الأسود.." إن تفريط البلاد العربية في أمن بعضها البعض، و تحالفها مع قوى أجنبية ضد بني جلدتها جعلها مجالا مفتوحا لكل أشكال الابتزاز. كما أن اعتماد النظم الحاكمة على المظلة الخارجية للبقاء في كراسي الحكم و معاداتها لشعوبها، جعل موقف هذه الأنظمة ضعيفا من ناحيتين: أولا- فهي أنظمة عارية من كل شرعية، لذلك لا تستطيع مواجهة الأجنبي الذي يدرك افتقارها لحاضنة شعبية تحميها ضد ابتزازت "ترامب" و "بوش" و "بوتين" و "نتنياهو" و ...، و ثانيا- أنها فاقدة للإرادة فهي لا تستطيع العودة لشعوبها، فالشعوب فقدت الثقة في هذه الأنظمة و تنتظر لحظة زوالها بفارغ الصبر..
من دون شك، أن الوضع الحالي للمنطقة العربية جد معقد و أن حجم التهديدات يتسع، لكن مع ذلك هناك بدائل تدعو إلى التفاؤل،إن قوة المنطقة اليوم ليس فيما تملكه من أسلحة. فمهما يكن حجم هذه الأسلحة فهو لن يضاهي ما تتوفر عليه القوى العظمى. لكن قوتها – المنطقة العربية - تكمن في إرادة الشعوب و ثباتها و العقائدي، فشعوب المنطقة رغم حالة التجهيل و التفقير الممارس عليها من قبل أنظمة غاشمة تحظى بغطاء أجنبي. إلا أن هذه الشعوب لازالت تؤمن بأحقيتها في تقرير مصيرها ، فالجميع يتذكر ما فعله الشعب الصومالي و اللبناني بالجيش الأمريكي ، و ما فعلته الفلوجة و المقاومة العرقية في جيش الاحتلال الأمريكي و حلفاءه.. إن قوة المنطقة في شعوبها الممانعة و نقطة ضعفها في أنظمتها الحاكمة المتهالكة، العاجزة عن بناء أي قوة ذاتية باستقلال عن الوصاية الأمريكية أو الأجنبية عامة. فهذه الأنظمة لا تتردد في استعمال القوة في وجه شعوبها لكنها بالمقابل لا تستطيع رفع صوتها بكلمة "لا" أو "كفى" في وجه الابتزاز و التدخل الأجنبي..
نود حقيقة أن تخرج المجتمعات العربية و الإسلامية من حالة الوهن الراهن، وان تصبح سيدة قرارها داخليا و خارجيا، قد يبدو هذا الأمر بعيد المنال في ظل الوضع الراهن، لكن ليس هناك مستحيلأمام إرادة الشعوب. فإذا خلصت النوايا و رجع حكام المنطقة عن غيهم و تصالحوا مع شعوبهم يمكن تغيير واقع المنطقة، و في كل الأحوال فان وضع الاستبداد لن يدوم طويلا فلإرادة التغيير قوة دافعة إذا انطلقت من الصعب إرجاعها عن مسارها..
فالتحدي أصبح بيدي الشعوب التي بإمكانها تغيير قواعد اللعبة محليا و دوليا، ف "ترامب" و"أوباما" و "بوش" تختلف الأسماء لكن تستمر نفس السياسات..التحدي الذي يواجه المنطقة هو تحصين الجبهة الداخلية وتحرير الإرادة الشعبية وبناء نظم اقتصادية وسياسية و اجتماعية عادلة و معبرة عن إرادة الناس، و نبذ الفرقة المصطنعة بين الشعوب العربية والإسلامية ففي الوحدة و التكتل الاقتصادي و العسكري قوة، و بمثل هذا المجهود الجمعي يمكن بناء عناصر القوة التي بمقدورها وقف كل قوة معادية، فالقوة لا تحدها إلا القوة..