: آخر تحديث

سقوط الخلافة في الموصل سنيّاً

249
264
248

لم يكن صدام حسين ليسقط باحتلال وغير احتلال، لولا أنه فقد مقومات بقائه شعبيا. أغلبية الشيعة والكرد رفضوا وجوده، وأغلبية السنة لم يعد يعنيهم الدفاع عنه.

ولم تحتل داعش الموصل لولا أن حكومة بغداد الاتحادية وإدارة نينوى المحلية فقدتا المقبولية الكافية داخل المدينة. فالجيش لم يكن ليهرب لو كان هناك بيئة حاضنة له. الان، خليفة داعش يواجه نهاية مشروعه وخلافته، وهي ليست فقط بسبب انتصارات خصومه، بل أيضا لم يعد يحظ بالأسباب والموجبات التي تستدعي استمراره داخل نينوى وغيرها، كما أن الخوف من وحشيته تراجع بالقياس الى الشهور الفائتة.

فهزيمة "الدولة الاسلامية" حصل لأنها فقدت قاعدة وجودها الاساسية، وهي حماية أهل السنة من الهجمة الصليبية او الهجمة الصفوية الرافضية. وإذا كانت بعض المخاوف السنية من هذه الهجمة غير حقيقية، فإن عديداً من المخاوف حقيقية وفعلية، لكنها تراجعت لصالح الخوف من الدولة الاسلامية نفسها، بعد أن كشفت عن مستويات عالية من الارهاب، ادى الى مقتل الالاف في عمليات اعدام لم يتوان التنظيم الارهابي من الاعلان والتفاخر بها.

القاعدة الأخرى التي اعتمدتها دولة الخليفة في تحقيق انتصارات بعد سقوط الموصل، هي إثارة اقصى وأقسى درجات الخوف في نفوس الناس، ما اعطى انطباعا أن هذا التنظيم لا يقهر. لكن، ومنذ هزائمه في جرف الصخر وتكريت وثم الرمادي والفلوجة، تغيرت البوصلة داخل العراق تحديداً، رغم استمرار الهالة الاعلامية التي طوّق نفسه بها عالمياً. فالقدرات الفائقة تراجعت بعد أن أوصل التنظيم المبني على أسس سرية، ارهابه الى إعلان كامل.

ولهذا نلاحظ، ان التنظيم مع الوقت يفقد قدراته الدفاعية، وسريعاً ما تنهار حصونه. ففي عملية الفلوجة، وهي الحصن المنيع، لم تكن مقاومته تذكر قياسا الى ما كان عليه الحال في تكريت والرمادي، وحين فسح المجال له هرب مقاتلوه بدون تردد، على الرغم من كونه تنظيماً انتحارياً قدم نفسه على أنه لا يأبه الموت.

وتشير المعلومات الى أن الموصل، وهي ثاني أو ثالث كبرى مدن العراق، والمحافظة الأكثر تعقيداً من نظيراتها، والتي اتخذها مع الرقة عاصمة له، يعاني مقاتلو داعش فيها من القدرة على الإمساك بالأرض ما اضطر الخليفة نفسه الى طلب النجدة من الطائفة السنية، ومن الانتحاريين وهدد بفتح جبهات جديدة للحرب. خصوصا وان هذه المعركة لم تكن مفاجئة، بل أعلن عنها مرارا، وكل ادواتها ومحاورها علنية حتى قبل أن تبدأ.

خطاب البغدادي الأخير احتوى على محاولة لاحتواء الهزيمة الداخلية، عبر السيطرة على أحد اهم اسبابها، حين وجه خطابه الى السنة معتمداً على الطائفية لحماية نفسه. لكنه تناسى أن حجم التنكيل الذي عرّضه لأهل الموصل السنة وغيرها، انهى فرص مد أي جسر من جسور الثقة التي كان قد مدها عبر البعثيين ورافعي شعار الثورة عام 2014. فغطرسته اللامتناهية دفعته مثلا، الى أن يفتح نيران الحرب على الكرد، بعد شهرين من سقوط الموصل، على الرغم من ان البيشمركه قبل ذلك التاريخ، بقيت تحافظ على حدودها وحدود المناطق المتنازع عليها بدون خوض معركة جادة. وهو نفسه اليوم يظن، بغطرسته نفسها، أن بمقدوره ان يعيد نفسه كزعيم منقذ للطائفة من طائفة أخرى. لكن فات الأوان، ليس فقط لأنه عرّضها الى اشد انواع الظلم والجرائم، بل لأن جرائمه الأخرى، كسبي الايزيديات، لم تترك له فرصة لأن يكون مقبولا في أوساط الموصليين أنفسهم.

ورغم أن الحشد يخوض معارك محدودة وبطريقة غير معلنة، الا أن اصرار الحكومة، على أن تكون العمليات رهناً بالجيش والشرطة وجهاز مكافحة الارهاب، والضغوط الدولية الممارسة لمنع تدخل الحشد والبيشمركه في العمليات العسكرية داخل المجال السني، يساعد على منع انهيار المكسب الاساسي الذي تحقق، وهو ان داعش قمعت السنة وهي ضدهم وليست معهم. وبالطبع ان المعلومات التي تتحدث عن انتهاكات تحصل بمبرر الحرب، كما حصل في الفلوجة، وعن تغيير ديموغرافي، باتت هي المقلقة، لا تستطيع داعش استثمارها، لكنها تبقي مشاعر الألم والظليمة في الاوساط السنية التي لا يمكن أن يطلب منها القبول بوجود جهات شيعية أو كردية تسيطر على مقدراتها الأمنية.

وهذا الأمر هو الذي يحدد اين تتجه الانتصارات: الى مزيد من الصراعات في مناطق تحتاج ان تستعيد انفاسها لتعود الى حياتها الطبيعية بدون حروب، أو الى استقرار يعين العراق على استعادة مشروع الدولة. فوجود الحشد، يعني صراعا ايرانياً تركياً على نينوى، ووجود البيشمركة يعني تغييرا ديموغرافياً. وما دام ان الكل يعمل بموجب الذهنية المذهبية او القومية، فلابد من إجبار الكل على فهم أن الموصل أكثر من تكريت أو الرمادي أو الفلوجة، هي مركز الثقل العربي السني، ومن يريد بناء دولة لابد أن يحترم هذه الخصوصية، مادام عاجزاً عن احترام الموصل باعتبارها عراقية وليس باعتبارها جزءاً من المشروع الشيعي او المشروع الكردي.

الأمر ذاته يدعم توجهات التحرير الوطني ضد مبررات التدخل التركي، وهي مبررات تتعكز عليها انقرة بخطاب تعسفي، لكنها حقيقية حين نلاحظها نحن كعراقيين. فلا يمكن القبول بأن ترفع راية تحمل رمزاً شيعيا على مدينة تعد حاضرة اساسية من حواضر السنة في شمال الجزيرة العربية، وليس لصالح أحد تعريضها لعملية إركاع مذهبية كعقاب "مشرعن" لمدينة لم تستقبل داعش بل ساهم اصحاب القرار الشيعي، فضلا عن زملائهم السنة، بجعلها بيئة قابلة لوجود التنظيم الارهابي. ولا يمكن القبول بفرض سياسة الأمر الواقع الكردية لأن المدينة العربية، الآشورية... إن عوملت كلقمة سائغة، ستخنق كردستان.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.