: آخر تحديث

إدوارد سعيد بين الشرق والغرب

301
333
281

عن دار Payot الفرنسيّة صدر عام 2014، كتاب حمل عنوان "في ظلّ الغرب". وهو يحتوي على ثلاث حوارات مسهبة أجرتها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، مجلاّت أنجلو -ساكسونيّة رفيعة مع المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد(1935-2003). وفي الحوارات المذكورة، هو يعيد بلورة، وصياغة أهمّ الأطروحات التي اشتهر بها، والمتّصلة بالإستشراق، والإسلام، وعلاقة الشرق بالغرب، والمنفى اللغوي، والجغرافي.كما تحدث إدوارد سعيد في الحوارات المذكورة عن جوانب تتعلقّ بحياته الخاصة، وبالتأثيرات التي فعلت فيه على المستوى الفكري، والفلسفي. وهو يقرّ بأنه عاش دائما قلقا واضطرابا بشأن هويّته. فهو عربي إلاّ أنه ليس مسلما. وقد أمضى سنوات طفولته ومراهقته في مصر دون أن يكون مصريّا. وهو كتب مجمل أعماله بالإنجليزية، غير انه لا ينتمي الى الثقافة الانجليزية. وعلى مدى ثلاثين عاما، درّس في جامعة "كولومبيا" بنيويورك من دون أن يكون أمريكيا.كما يقرّ إدوارد سعيد بأن وعيه بمأساة فلسطين، وطنه الأصلي، جاء متأخرا. مع ذلك أمكنه أن يعرّف بالقضية الفلسطينية في الأوساط ألأمريكية، وأن يدافع عنها في المنابر الكبيرة متحديّا اللوبي الصهيوني، ووسائل الإعلام المتعاطفة مع إسرائيل. ومثلما فعل في كتابه الشهير حول الاستشراق،أكّد إدوارد سعيد من جديد أن الشرق لم يوجد إلاّ في أحلام الغربيين وذلك إنطلاقا من القرن الثامن عشر.كما أكدأن الأبحاث والأعمال التي أنجزت حول الشرق لم يكون لها هدف ثقافي، وحضاري بحسب ما ادّعى ذلك أصحابها، وإنما كان لها دور فعّال في تركيز الهيمنة الإستعمارية، وتبرير الجرائم التي شرع الغرب في ارتكابها في العالم العربي انطلاقا من بداية القرن التاسع عشر. ومعبّرا عن تشاؤمه إزاء حدوث توافق بين الشرق والغرب، قال إدوارد سعيد في حوار أجري معه عام 1996:”أعتقد أن الوضع يزداد سوءا يوما بعد آخر. ويمكن أن أقول بانه لا يكاد يوجد أمريكي شمالي واحد يعرف العالم الإسلامي. فهذا العالم هو بالنسبة له بعيد، وصحراوي. وفيه عدد كبير من الخرفان، والإبل، وأناس بسكاكين بين أسنانهم يقومون بأعمال ارهابية. من ناحية أخرى ينظر المسلمون إلى الأمريكيين وكأنهم مهووسون بالجنس، ولهم أقدام ضخمة، ويبالغون في الأكل. والنتيجة أن هناك فراغا عوض أن يكون هناك حضور بشري، وعدم وفاق عوض أن يكون هناك توافق، وتبادل أراء ". مع ذلك يرى ادوارد سعيد أنه لا بدّ من مواصلة العمل لكي يخفّ الصراع بين الشرق والغرب، وتتقلص الخلافات بينهما لأن في ذلك ضمانا للسلام العالمي. وفي الحوارات المذكورة، قدم إدوارد سعيد تحليلا معمقا لأعمال أدبية وفنيّة مشهورة مثل "في قلب الظلام"لكونراد، و"الغريب" لألبير كامو، و"روبنسون كريزوي"لدانيال دفو،ولسمفونية "عايدة" لفاردي. ومعلوم أن هذه الأعمال الأربعة المذكورة تتحدث عن العلاقة المتوترة بين الإنسان الغربي والآخر. وعن البيركامو، قال إدوارجد سعيد:"كامو لعب دورا مهمّا بصفة خاصّة في الإنتفضات المشؤومة التي رافقت الولاد العسيرة والمؤلمة لمرحلة إنهيار الإستعمار الفرنسي. إنه وجه إمبريالي جاء متأخرا. وهو لم يعش فقط الفترة التي بلغت فيها الإمبراطورية الإستعمارية ذروتها، بل عاش أيضا الفترة التي أصبح فيها كاتبا"كونيّا" يمدّ جذوره في استعمار بات اليوم منسيّا". ويرى إدروارد سعيد أن روايتي كامو، "الغريب"، و"الطاوعون"، ومجموعته القصصيّة:”المنفى والملكوت"، تمثّل حجة لاواعية بإقرار كامو بالهدف الإنساني والحضاري للإستعمار. وبالنسبة لصاحب كتاب "الإسشراق"، لا يختلف جوزيف كونراد الذي أعدّ عنه أطروحة جامعية، عن ألبير كامو. فهو أيضا ساند غزوات بريطانيا لمناطق مختلفة من العالم. ومرة كتب يقول:"لقد وضعت إصبعي على البقعة البيضاء، التي هي إفريقيا، وذات:"ذات يوم سأذهب إلى هناك!".

وفي الحوارات يبدي إدوارد سعيد رفضه للقوميّة العربيّة في مفهومها الإيديولوجي الضّيق، والذي يضفي عليها مسحة شوفينيّة. كما يبدي نفوره من نظرية "تصادم الحضارات" التي صاغها المفكر الأمريكي صامويل هنتغتون في التسعينات من القرن الماضي، أي في الفترة التي احتدّت فيها المواجهة بين الشرق والغرب بسبب الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد نظام صدام حسين في العراق.

وما أنا استنتجته شخصيّا من هذه الحورات هو أن إدوارد سعيد يتخلى أحيانا عن الفكر في جوهره الصحيح، لينقاد إلى الإيديولوجيا التي غاليا ما ترى غير لونين: الأبيض والأسود، غافلة ومهملة بقية الألوان. واعتمادا على هذه الإيديولوجيا، هو يسمح لنفسه بإصدار أحكام قد تكون قاسية ومُتجنية، وأحاديّة الجانب، وخالية من الوضوعية. وهذا ما تبينته من خلال إنتقاداته لكل من كامو وكونراد. فقد أهمل إدوارد سعيد المستوى الفني والأدبي والإنساني لأعمال هذين الكاتبين، ليسقط عليها أطروحات سياسية، وأفكارا إيديلوجية قد يكونا هما بريئين منها. فالكاتب الحقيقي هو الذي يصيغ الواقع إنطلاقا من تعقيداته وتشعباته، وليس إنطلاقا من إيديولوجيات تزعم أنها تنتصر للقيم الإنسانية السامية، ولحرية الشعوب في تقرير مصيرها!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.