: آخر تحديث

كيف تجرّأت على اغتياله؟!

13
12
12

منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، وضعت القيادة الإسرائيلية موضوع اغتيال الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله على الطاولة. وأظهرت التقارير الكثيرة التي نشرتها وسائل الإعلام العبرية والعالمية أنّ ما كان يحول دون اتخاذ هذا القرار ليس انعدام القدرة- وهي متوافرة- بل الخلافات – وهي كثيرة- حول “جدوى” الهدف و”كلفة” النيل منه. 

كانت الفئة التي ترفض اغتيال نصرالله تجادل بالإستناد الى معطيات من بينها الآتي: 

أوّلًا، إنّ حزب الله حزب قوي جدًا وتقف خلفه، على كل المستويات، الجمهورية الإسلامية في إيران، وبالتالي فإنّ القادة فيها قد لا يقدمون أو يؤخرون، فاغتيال إسرائيل للشيخ عبّاس الموسوي أنتج السيد حسن نصرالله. في ذهن هؤلاء أنّ هناك في اللون الواحد تمايزات كثيرة، وعليه فإن الأسود قد يكون له من هو أكثر سوادًا منه!

ثانيًا، إنّ اغتيال شخصية بمقام نصرالله من شأنه أن يجر الى حرب واسعة، أن يحرر، بالتالي، القوة النارية الهائلة التي يملكها “حزب الله” فيلحق بـ”الجبهة الداخلية” دمارًا مذهلًا.

ثالثًا، صحيح أنّ التنظيمات والقوى الموالية لإيران في كل من سوريا والعراق واليمن، لا تخيف إسرائيل، ولكنّ الصحيح أكثر أنّ دخول إيران على الخط، يحتاج الى ترتيبات كثيرة مع الإدارة الأميركية.

ولكن ما الذي تغيّر حتى حصل في إسرائيل نوع “نادر” من الإجماع على المستوى السياسي أوّلاً والعسكري ثانيًا والمخابراتي ثالثًا؟

إنّ الحصول على جواب دقيق عن هذا السؤال يعين على تبسيط التعقيدات التي تعترض استشراف المستقبل، لأنّ ما بعد اغتيال نصرالله يستحيل أن يكون بالقواعد نفسها التي سبقته، ولا سيّما على المستوى اللبناني- اللبناني أو اللبناني- الإسرائيلي.

إذن، لماذا غيّر هؤلاء مواقفهم؟

لم يُتخذ قرار اغتيال نصرالله، إلّا في سياق متكامل، أمنيًّا، عسكريًّا وسياسيًّا.

الهجوم على نصرالله كان حلقة أساسية في سلسلة مترابطة. ولو فشل أيّ منها لكان قرار الاغتيال قد أُلغي، لأنّ هذا الفشل يمكنه أن يكشف عن قصور معلوماتي أو تقني أو تنفيذي. هذا لم يحصل. 

بدأ “مشروع الإغتيال” باستهدافات “بسيطة” (مطاردة المقاتلين). إنتقل الى مستويات وسيطة (اغتيال القيادات العسكرية). وصل الى مستويات معقدة (تفجيرات البايجر والتوكي ووكي). وارتقى الى مستوى خطر (إستهداف المنازل بحجة تخزين الصواريخ).

ردة فعل “حزب الله” على هذه الحلقات المتتابعة، أعطت إشارات تشجيع للجميع في إسرائيل. الهجومات التي نظمها الحزب كانت دون مستوى المخاوف، سواء على مستوى الأهداف أو على مستوى القدرات. مرد ذلك، كان بنظر الجميع، قلق الحزب ووراءه إيران من تحوّل “الإستنزاف” الى الحرب. الهجوم الذي نفذه “حزب الله” للرد على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، أعطى إسرائيل ثقة عالية بتقييم “نيات” الحزب، من جهة وبمؤهلاتها الدفاعية والهجومية، من جهة أخرى.

قبيل الإغتيال “العظيم” حصلت اغتيالات كبيرة ومتتالية. ردات الفعل من جانب “حزب الله” كانت “كلاسيكية”، فيما قدرات إسرائيل بدت متكاملة معلوماتيًّا وتقنيًّا وتنفيذيَّا.

واقع إيران لم يكن بعيدًا أبدًا من الحسابات الإسرائيلية. تل أبيب لم تلتفت الى “حمائمية” الرئيس الجديد مسعود بزشكيان بذاتها. كانت بالنسبة لها مرآة تعكس مباشر حقيقة ما يعتمل في مركز القرار الحقيقي في الجمهورية الإسلامية، أي في ديوان المرشد علي خامنئي. بدت واثقة بأنّ خامنئي خائف من التورط مباشرة بالحرب، سواء تدخلت الولايات المتحدة الأميركية لمصلحة إسرائيل أو حافظت على مستوى الدعم الحالي. لقد عززت إسرائيل في ذهن خامنئي وجوب المثابرة على “الصبر الإستراتيجي”: اغتيال إسماعيل هنية في “قدس أقداس” الحرس الثوري مرعب، بكل ما له من أبعاد عن اختراق المخابرات الإسرائيلية للأمن الإيراني، والهجوم على الحديدة في اليمن، وهي أبعد على إسرائيل من طهران، لا يمكن القفز فوقه، وضرب حمايات إحدى المنشأة النووية في “الرد المضبوط” لإسرائيل على هجوم إيران الفاشل عليها انتقامًا لاغتيالها قيادة “فيلق القدس” في القنصلية السورية، مخيف، وواقع إيران الاقتصادي لا يحتمل كلفة الحرب المباشرة، ونغماس الحليف العسكري “المحتمل” في حربه الأوكرانية، غير مشجع على الإطلاق، والغضب الشعبي الداخلي في إيران في ظل معارضة متصاعدة، لا يمكن التلهي عنه.

إذاً، لم يكن هناك ظرف أكثر ملاءمة لاغتيال نصرالله من هذه اللحظة. إيران “تائهة” استراتيجيًّا و”حزب الله” مضعضع عسكريّا، و”جبهة المقاومة” في ظل “حماس” شبه المنهارة في غزة و”المطارَدَة” في الضفة الغربية، ومع نظام سوري لا يكترث إلا باستمراريّته، لا قيمة فعليّة لها.

ووسط توقعات بأن تكون الكلفة “مقبولة جدًا”، اغتالت إسرائيل نصرالله وكان معه، وهذا الأهم، قائد الحرس الثوري الإيراني في لبنان الجنرال عباس نيلفروشان ومجموعة أخرى ممن تبقى حيًّا وسليمًا من المخططين والمنفذين. 

وهكذا لم تضرب إسرائيل معنويات العدو فحسب، بل قضت أيضًا على من يمكنه أن يرفعها، سواء عند العامة أو عند المقاتلين التائهين والخائفين!

وبهذه الكلفة العادية، أقدمت إسرائيل على اغتيال عدو ليس عاديًّا. هي تعرف تأثير السيّد نصرالله على البيئة الشيعية، وعلى جميع مناوئي إسرائيل في تنظيمات الإسلام السياسي. وهي تعرف أنّ الرمزية التي اكتسبها “أبو هادي” في “حزب الله” يحتاج غيره الى سنوات كثيرة وجهود عظيمة لاكتسابها. رمزية يبدو طريقها مسدودًا، في واقع إسرائيل الحالي، وفي ظل التغييرات الجيو سياسية الناجمة عن حرب تستعد، على إيقاع مفرقعاتها القاتلة، للإحتفال بذكراها السنوية الأولى. فما وصل إليه نصرالله منذ 16 شباط 1992، عندما حلّ مكان الشيخ عباس الموسوي، لن يكون لغيره أيّ سبيل إليه!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد