ماجد كيالي
كأن حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضد فلسطينيي قطاع غزة، بطريقة فاشية، ووحشية، وغير مسبوقة، لا تزال في بدايتها، بدليل ارتكاب إسرائيل مجازر يومية، ربما كان أبرزها يوم 10/8/2024، التي ذهب ضحيتها حوالي مئة وخمسون من الفلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، من النازحين المقيمين في مدرسة "التابعين" بحي الدرج، شرقي قطاع غزة. يستنتج من ذلك أن إسرائيل لا تزال مصرة على مواصلة الحرب الإجرامية ضد الفلسطينيين، والتي اشتملت على حرمانهم من الماء والغذاء والكهرباء والدواء والوقود وأماكن الإيواء، دون أن تلوي على شيء، لا ضغوط الرأي العام الدولي، ولا مواقف الدول والهيئات الأممية، ولا انكشافها في الضمير العالمي، كدولة عنصرية، تمارس حرب إبادة جماعية، علماً إن إسرائيل تستقوي في كل ذلك بدعم الولايات المتحدة لها، سياسياً وعسكرياً ومالياً، وآخره، قبل أيام، ما تمثل بصفقة تسلح قيمتها 20 مليار دولار. رغم كل ما يجري، ثمة من لا يزال يروج لمقولة مفادها أن "اسرائيل لم تحقق أهدافها"، والمشكلة أن ذلك يأتي بطريقة تقريرية و"انتصارية"، مع حديث عن المقاومة، وعن صمود فلسطينيي غزة المليونين، الذين ليس بمقدورهم، في الحقيقة، عمل شيء البتة، إذ وجدوا أنفسهم، منذ أكثر من عشرة أشهر، في رحى حرب لا يملكون إزاءها شيئاً، سوى محاولة النجاة بأرواحهم، كبشر في حقل رماية، أو في سجن كبير، يتعرضون فيه لكل أنواع التنكيل والقصف، دون أن يستطيع أحد حمايتهم، أو التخفيف من آلامهم. هكذا، فلا عملية هنا أو هناك، ولا صاروخ أو أكثر يتم اطلاقهم، ولا تخيّل إسناد من الخارج، ولا وهم "وحدة ساحات"، ولا خدعة أو لعبة مفاوضات، تغير من أحوالهم، أو تخفف من معاناتهم، أو تريهم نافذة أمل، تخلصهم من هول هذا الجحيم. إذن، حرب الإبادة الجماعية الوحشية مستمرة، وهذا يعني أن المفاوضات، وآخرها في الدوحة (لحظة كتابة هذا المقال) هي مجرد عملية للمراوغة والتلاعب وتزجية الوقت، لتأمين التغطية لاستكمال إسرائيل مهمتها، بغض النظر عن الإعلانات، وعن إرادة الوسطاء أو نواياهم. وعملياً، فإن هدف إسرائيل الحقيقي من تلك المفاوضات، هو شرعنة حرب الإبادة، أو تغطيتها، وإن أمكن، في غضون ذلك، فرض صفقة تتيح تخليص الرهائن الإسرائيليين، من دون تنازلات تتمثل بوقف تلك الحرب، وإخراج الجيش الإسرائيلي من غزة. المعنى أن إسرائيل تصر على مواصلة حربها العدوانية ضد فلسطينيي غزة، سواء نجحت الصفقة، التي تريدها، أو فشلت (وهذا الأرجح)، لمواصلة سعيها بحرية أكبر، أي من دون ضغوط داخلية أو خارجية، بهدف ترويع الفلسطينيين وإخضاعهم وتكريس الهيمنة عليهم من النهر الى البحر، وتالياً وأد فكرة أو حلم الدولة الفلسطينية المستقلة نهائياً، مع تدمير غزة وتحويلها الى منطقة غير صالحة للعيش، وصولاً للتخلص من ثقلها الديموغرافي، الذي طالما أرق إسرائيل. هذا يفسر أن عنوان المفاوضات، في الدوحة والقاهرة، أو أي مكان هو صفقة للإفراج عن الرهائن الإسرائيليين (الـ 120)، من دون الربط مع وقف دائم للحرب العدوانية على غزة، ومن دون التعهد بالانسحاب من كامل قطاع غزة، وأيضاً بلا أي تعهد بعودة الفلسطينيين إلى الأماكن التي هجروا منها داخل غزة؛ إلى الشمال تحديداً. تلك هي الاستهدافات الحقيقية للحرب الإسرائيلية ضد غزة، التي تعتبر موطن الوطنية الفلسطينية الأول، منذ تشكيل "حكومة عموم فلسطين" بعيد النكبة (1948)، وباعتبارها مركز ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وآبائها المؤسسين (ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وأبو إياد ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان)، في منتصف ستينيات القرن الماضي. المسألة الأخرى، التي يفترض إدراكها في هذا الإطار، أن هذا الهول الذي تعيشه غزة، جراء الحرب الإسرائيلية عليها، طوال سنة تقريباً، هو بمثابة استكمال للحرب الأولى، التي أسست لإسرائيل، في نكبة 1948، وأيضاً، استكمال ما حاولت تأسيسه في النكبة الثانية (1967)، أي فرض حقيقتها وروايتها ووجودها على الفلسطينيين، وفي العالم العربي، والتخلص من كل التهديدات التي تواجهها، آنياً، ومستقبلاً، مرة واحدة. ميزة تلك الحرب، هذه المرة، أن إسرائيل لم تعد تبالي بتقديم نفسها كضحية، ولا بقبول العالم لادعاءاتها، من عدم ذلك، كما لم يعد يهمها الغلافات التي تتغطى بها، على شكل دولة ديموقراطية أو حداثية أو علمانية، من عدم ذلك. وفي الواقع فإن الحكومة الإسرائيلية اليوم، التي تجمع اليمين القومي والديني، بقيادة بنيامين نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير، من أتباع "كاهانا"، والصهيونية الدينية، باتت تقدم إسرائيل صراحة، وبدعوى استعادة الردع، باعتبارها دولة اسبارطية، عسكرية حتى النخاع، لا يهمها شيء سوى القوة لفرض حقيقتها، كدولة استعمارية واستيطانية ودينية وعنصرية.
اللافت أن تلك الحكومة لا تقدم إسرائيل على هذا النحو إزاء العالم، وإزاء الفلسطينيين، فقط وإنما حتى إزاء اليهود فيها، وإزاء يهود الدول الغربية، بعدما بات قطاع منهم يتبرّم من سياساتها، باعتبارها تشكل عبئاً سياسياً وأمنياً ومالياً وأخلاقياً عليهم، في مجتمعاتهم في الغرب، كما في تصديع وحدة المجتمع اليهودي في إسرائيل ذاتها، على نحو ما شهدنا منذ مجيء تلك الحكومة أواخر العام 2022، مع ملاحظة مهمة، أخرى، وهي إن التطرف الإسرائيلي، الذي تديره تلك الحكومة، ضد الفلسطينيين، بات يتوازى، هذه المرة، مع التطرف في المجتمع الإسرائيلي، بتغليب طابع إسرائيل كدولة دينية ويهودية (أي عنصرية) على طابعها كدولة علمانية، وليبرالية ديموقراطية (بما يخص اليهود فيها). حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، هي لحظة انعطافية في تاريخ إسرائيل، وعلى نتائجها، سيتوقف الكثير، بشأن طبيعة هذه الدولة المصطنعة، ومكانتها وصورتها في العالم، وضمنه إزاء الفلسطينيين وفي العالم العربي.