كيف خطرت على بال الأجيال العربية منذ قرون ألوان لا تُحصى من الثقافة، تيّاراتها ومشاربها، إلا الثقافة الاستراتيجية التنموية، فكأنها كانت من المحرّمات المحظورات؟
القائمة طويلة: الأصالة، والتجديد، والماضويّة، والحداثويّة، والتزمّت، والانفلات، والأصولية، والاستلاب، والأمميّة، والانعزالية، ولا حدّ للعدّ؛ فلكل عَدد مَدد.
حتى مكافحة الإرهاب التي ابتلع العرب وغيرهم طُعمها، طوعاً أو كرهاً، لا تزال إلى الساعة رحاها تدور والشعوب كالحبوب تطحن وتُمحن. هي الأخرى صارت للعرب وغير العرب ثقافة. وهل يخفى سيف داموكليس فوق رأس الكوكب: «من ليس معنا، فهو ضدّنا». مع أن منطق الرياضيات والفيزياء يقضي باستحالة أن يكون للكوكب قطب واحد. بقي أن منطق القوة هو الذي يحدّد معاني المفردات.
أليس غريباً أن دماغ العالم العربي لم يفكّر في الثقافة الاستراتيجية؟ الإمبراطورية بدأت التفكير فيها وفي خطط تنفيذها التوسعية، قبل الحرب العالمية الأولى. ثم ظهر مارد الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، زبغنيو بريجنسكي، فجعل براعمها تتفتح، فتتجلى ورودها كعنوان ديوان أشعار الشاعر الفرنسي الرجيم شارل بودلير: «أزهار الشرّ». لم يفكّر دماغنا العام في ثقافة استراتيجية تكون تجارةً رابحةً تُنجي العرب من أن يظلّوا طوال عشرات السنين سُكارى وما هم بسكارى، في الزلازل والأعاصير، فيضعوا استراتيجية ثقافة تنموية تخلّصهم من الأوهام المأساوية الملهاتية.
كيف يُعقل أن تكون الثقافة لا علاقة لها بضياع مستقبل ثمانين مليون عربي أمّي؟ هل يمكن أن تلزم الصمت ثقافة تعتزّ بأنها وطنية وعربية، إزاء الأمّية التي هي سوس ينخر عظام الأوطان والأمّة، وهي تعلم أن الأمّية أخطر أعداء الثقافة؟ ألا ترى الثقافة استحالة إقامة تنمية سليمة تكاملية، مع شلل ربع نفوس العرب؟ كيف تكون الثقافة ثقافة إذا تجاهلت تطوير التعليم، وتغافلت عن تغوّل الفجوة الغذائية، ولم تكترث لتخلّف البنية التحتية، وغضّت الطرف عن استفحال الجوع وتفشّي الأمراض؟ لقد جرت العادة أن تستمرئ الثقافة ضرب مثال: «أكل الثعلبُ العصفور»، للفعل والفاعل والمفعول، ولكن لا يخطر على البال المثال: «دمّر المحتل العراق»، أو سوريا، أو ليبيا.
ما هذه الأحادية البصريّة التي تتوهّم أن بين أوزان الخليل والرياضيات عداوة؟ أو بين البلاغة والفيزياء خصومة؟ أو بين عشق التراث وبين التنمية الاقتصادية ضغينة؟ أو بين الحداثة أو ما بعد الحداثة انفصالاً وانفصاماً عن الكيمياء؟ أو بين حبّ الموروث والهيام بالتقانة أو بالذكاء الاصطناعي حقداً دفيناً؟ أو بين التجريبية الإبداعية والتجريبية العلمية تنافراً؟
لزوم ما يلزم: النتيجة الحياتية: ما قيمة الحياة إذا خلت من تناغم العلوم والمعارف في ثقافة واحدة؟ وما قيمة الثقافة إذا لم تكن من الحياة وإليها؟

