: آخر تحديث

أين يكمن الخلل؟

26
24
28
مواضيع ذات صلة

رفع مستوى المعيشة للمواطنين ركن أساسي في سياسة الدولة وهو على رأس أولويات حكامها، وهو اليوم هدف دائم لكل المجالس النيابية والشورية معًا ينبغي العمل على تجسيده في الواقع المعيشي فورًا ومن دون تأخير، ورغم ذلك وفي ظل التعاطي البطيء مع هذا الملف، أو السريع شكلًا ولكن من دون أن يفضي إلى نتيجة ملموسة، في مناقشة الميزانية العامة سيبقى هذا التحسين هدفًا منشودًا بعيد المنال، ولهذا سنكون مجبرين بالمعاودة في الحديث عنه مع مناقشة كل ميزانية عامة؛ لأن ما يُثار حوله إلى حد اللحظة لم يتجاوز حدود الشعارات أو إعلان النوايا في أحسن الأحوال.

 قد يكون السبب في ذلك أن مفهوم «رفع مستوى المعيشة» بقي مفهومًا عامًا يكتنفه شيء من الغموض والضبابية، بل قل عدم الوضوح لتضمنه عدة بنود؛ ذلك أن خلق فرص عمل، وزيادة الأجور، وتطوير الخدمات الحكومية، وتقوية البنية التحتية للدولة وغيرها، كلها بنود تندرج ضمن مفهوم «رفع مستوى المعيشة». وهذه البنود كما نلاحظ تتطلب بالضرورة استمرارية في الطرح في كل الميزانيات الحالية واللاحقة؛ إذ لا يُمكن أن نتصوّر العملين الحكومي والتشريعي من دون تعهد مستمر لهذه الملفات الحيوية، وفي هذا وجه الاختلاف الرئيس بين المشاريع الإنشائية التي تُرصد لها الاعتمادات المالية في ميزانية بعينها لتختفي في ميزانية لاحقة؛ لأنها ببساطة ملف تم إغلاقه والفراغ منه. وعليه فإن المواطن لن يستشعر رفعًا في مستواه المعيشي كما تدرك ذلك الجهة المنوط بها رسم الموازنة العامة، إلا إذا تم تفصيص هذا المصطلح ليسهل على المواطن أن يفهم بأن رفع مستوى المعيشة لا يقف عند زيادة الرواتب أو مضاعفة أشكال الدعم المالي ومبالغه، وإن كان هذا هو ما يجعل المواطن يشعر فعلًا أن هناك عمل يلامس احتياجاته المعيشية المباشرة.

 وها نحن منذ بدء مناقشة الميزانية نراوح مكاننا، فلا هذا الركن الأساسي في سياسة الدولة، وأعني هنا رفع مستوى المعيشة، قد تحقق، ولا استقام وجوده هدفًا دائمًا للمجالس النيابية والشورية، بل أكاد أزعم أنه لم يرَ النور في المجلسين لأننا سمعنا بكل شيء إلا بمقترحات عملية معقولة ومستدامة تتفق وطموحات المواطن لرفع مستويات معيشته بشكل مستمر ومستدام، وفي هذا ما يدفع كل المواطنين إلى التساؤل عن أولويات عمل المجلسين: أوليست زيادة الدعم على اختلاف مسمياته وأنواعه، وتوق المواطنين إلى زيادة الأجور وأمل المتقاعدين بإعادة النظر في وقف زيادتهم ودعم معاشاتهم مهمات عاجلة لمواجهة زيادة الأسعار الصاروخية وفي كل المواد غذائية كانت أم كمالية، أم خدمية حكومية؟ ألا يتيح تحقيق بعض عناصر مفهوم «رفع مستوى المعيشة» السالفة انطباعًا فوريًا لدى الفئات المتضررة من غلاء أسعار السلع والخدمات بأن مستوى المعيشة يتحسن؟ من الواضح إذًا وجود خلل ما ينطوي عليه أسلوب مناقشة الميزانية، فأين يكمن هذا الخلل؟ ولنبحث عنه معا لعلنا نظفر بنصف الحل لأزمة تدهور مستوى معيشة المواطن وخصوصًا في ما يتعلق بمواجهته المباشرة لمشترياته السلع والخدمات.

 لنتفق أولا أن تأخير إقرار الميزانية ليس في صالح أيٍّ كان، لا الحكومة ولا المجلسان ولا المواطنون وهم أول المتضررين الذين أهلكهم انتظار تحقق ما وعد به النواب على امتداد العشرين عامًا الماضية وليس نواب 2022 فحسب، ولهذا فإن المهمة العاجلة هي العمل على تحرير الميزانية العامة من قيد المناقشات المتلكئة باتفاق على ما يُزيح عن كاهل المواطنين ثقل الغلاء ومتاعبه النفسية، سواء أتعلق الأمر بمناقشات أعضاء اللجنة المالية بمجلس النواب أم بمناقشات هذه اللجنة مع أعضاء السلطة التنفيذية.

 أعتقد أنه من المفترض أن يكون كل النواب قد سلموا مرئياتهم حول الميزانية إلى اللجنة المالية، وإلا فإنه ينبغي النظر في آلية جديدة للحصول على هذه المرئيات. فلو كان نظام التكتلات العابرة للطائفية سائدًا في مجلسنا النيابي لكان من السهل تجميع هذه المرئيات، ولكن أغلب المترشحين بعد انتخابات 2010 الذين أرعبهم تكتل «الوفاق» الطائفي في مجلسي 2006 و2010، آثروا أن يكونوا مستقلين كما أغلبهم اليوم في مجلسنا الحالي ويعتمدون على اجتهادات شخصية وأن أغلب مرئياتهم منقولة بالنص من برامجهم الانتخابية باستثناء كتلة تقدم.

 أتاحت لنا الصحافة الوطنية معاينة بعض هذه المرئيات وتفحص مكوناتها ووجدنا ذات الوعود التي قطعها المرشحون في الحملات الانتخابية، ولم أجد ما يشير إلى تغيير في الأولويات، أو إلى مصروفات الدولة وضرورة وقف غير الضروري منها، والعمل على تنشيط الاقتصاد، وتحفيز الاستثمار، وجذب رؤوس الأموال. المرئيات، في تقديري، ينبغي أن تكون قراءة مستقبلية لواقع الميزانية المعروضة. نعم إيجاد فرص عمل وزيادة الرواتب وإعادة الزيادة السنوية للمتقاعدين مع النظر في زيادة نسبة معينه لمواجهة التضخم والغلاء المستفحل وغيرها من عناصر رفع مستوى معيشة المواطن، ضرورية ومطلوبة لحماية الكثير من الأسر من الوقوع في حالة الفقر، لكن وفق قراءة حصيفة للميزانية بحيث تنسجم مع المشاريع الحكومية والأرقام المرصودة لها في الميزانية.

 نأمل ألا تطول المناقشات الحالية أكثر حتى لا يطول انتظار المواطنين، وأن تفضي إلى توافق مؤداه الصريح رفع مستوى المعيشة بحيث يكون جيب المواطن أول المستشعرين بالفرق بين إقرار ميزانية 2023-2024 والميزانيات السابقة التي خضعت للمناقشات ودار كثير من الجدال حولها في المجلسين التشريعيين من دون أن تترك أثرًا في تحسين دخل الفرد منذ أكثر من عشرين عامًا.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد