في الحادي عشر من شهر يوليو -تموز2023، توفي التشيكي-الفرنسي ميلان كونديرا الذي يُعد واحدًا من أهم الروائيين في النصف الثاني من القرن العشرين عن سن تناهز 94 عامًا.
وقد تميّزت جل أعماله بنقدٍ لاذع للحقبة الشيوعية في بلاده التي تركها في السبعينات من القرن الماضي، ليستقر في فرنسا، حاصلا على جنسيتها، وكاتبًا بلغتها.
وكان ميلان كونديرا قد قرر انطلاقًا من عام 1985، عدم إجراء أيّ مقابلة مع الصّحافييّن. وحتى عندما أتّهم بالتّعاون مع أجهزة الإستخبارات الشّيوعيّة في ما كان يسمّى بتشيكوسلوفاكيا، خلال سنوات شبابه، فإنه ظلّ ملتزما بقراره، مفضّلا أن يعرض على قرّائه الذين يعدّون بالملايين، أفكاره وآراءه من خلال ما يكتبه من روايات، أو من خلال كتبه النّظريّة مثل "فنّ الرواية"، أو "الوصايا المغدورة"، أو "لقاء".
وفي خريف عام 1993، طلبت جريدة "لوموند" الفرنسيّة المرموقة إجراء حوار مع صاحب "كتاب الضّحك والبكاء" وذلك عقب صدور كتابه "الوصايا المغدورة" الذي كتبه بلغة موليير. إلاّ أنه رفض الطّلب مفضّلا نشر نصّ نظريّ فيه استعرض أفكاره، وآراءه حول أعماله الروائيّة.
وفي بداية هذا النصّ، كتب يقول :”ليس هناك في مسيرتي الروائيّة أيّة قطيعة بين ما كتبته في بوهيميا الشيوعيّة، وبين ما كتبته من روايات في فرنسا انطلاقا من "الخلود"، والتي تدور أحداثها في فرنسا. والاعتقاد بأنّ هناك قطيعة، خصوصًا تلك التي تكون مُحتّمة، ولا مفرّ منها، يخضع إلى شكلين من أشكال سوء التّفاهم.
الأوّل جماليّ يجعل الرواية محلّ سؤال. والبعض يحاولون أن يجدوا في ذلك شهادة عن بلد، أو عن مجتمع. مثال ذلك: روايتي "الحياة في مكان آخر" التي تروي قصّة شاعر شابّ في الحقبة الستالينيّة (نسبة إلى ستالين) الأشدّ قسوةً وعنفًا. لكن عليّ أن أقول بإنّي لم أزعم من خلالها التفكير في أن أساعد القرّاء على اكتشاف الستالينيّة. ففي عام 1969، بعد أن انتهيت من كتابة الرواية، كان ذلك الأمر قد أصبح من البديهيّات، إلاّ أن موضوع الرواية كان وجوديّا يتمثّل في الشّعر، الشّعر الثّوريّ في حقبة الإرهاب الشيوعيّ، والذي ألقى بضوئه غير المنتظر على الميل الغنائيّ الأزليّ للإنسان.
وفي رواية "الخلود"، لم يكن الموضوع "مجتمع المشهد" في الغرب راهنًا، إذ أن الإنسان كان ولا يزال ميّالا إلى مثل هذا المجتمع الإستعراضي. وهو لا يزال يحمل في نفسه بذرة هذا المجتمع، والذي هو في حقيقة الأمر انعكاس على مستويات اجتماعيّة موسّعة للمشكل الوجودي الدّائم، مشكل صورة الإنسان في عيون الآخرين. وهو مشكل يشغلني منذ كتابي الأوّل.
أمّا الأمر الثّاني فهو الاعتقاد بأنّ العالمين، الشّيوعي والدّيمقراطي، في تناقض مطلق. من النّاحية الإقتصاديّة والسياسيّة يمكن أن يكون الأمر على هذه الصّورة. لكن بالنسبة للرّوائيّ، فإنّ نقطة الانطلاق هي الحياة الموضوعيّة للفرد. من هذه النّاحية هناك تشابه يدهشنا بين العالمين. عندما رأيت في تشيكوسلوفاكيا العمارات السّكنيّة الشّعبيّة المتشابهة، اعتقدتّ انّي أشاهد السّمة التي يتميّز بها الرّعب الشيوعي، وفي بربريّة الأبواق التي تطلق عاليًا، وفي كلّ الأمكنة، موسيقى رديئة، كنت أتحسّس الرّغبة الجامحة في تحويل الأفراد إلى مجموعة من الحمقى، والمغفّلين الذين يوحّد بينهم نفس الصّخب المفروض عليهم. فقط، في ما بعد، فهمت ان الشيوعيّة تكشف لي بطريقة كاريكاتوريّة، ومبالغ فيها، الملامحَ المشتركة للعالم الحديث، ونفس البيروقراطيّة للسّلطة، وكلّيّة الوجود، وفيها يعوّض صراع الطبقات بغطرسة المؤسّسات تجاه المستعمل لها، وانحطاط المهارة المهنيّة، وتفاهة شباب الخطاب الرسميّ، والعطل التي تنظّم للقطعان البشريّة، وبشاعة الريف التي تختفي منه يد المزارع. وبين كلّ هذه القواسم المشتركة، هناك الأسوأ المتمثّل في عدم احترام الحياة الشّخصيّة للفرد. وهو شيء يتمّ تبريره بالإعلاء من شأن الحقّ المقدّس بالتّبليغ عن ذلك(...). من هذه النّاحية، تبدو لي تجربة الشيوعيّة وكأنّها مدخل للعالم الحديث بصفة عامّة. وقد جعلتني أشدّ حساسيّة أمام الظّواهر العبثيّة التي نجد أنفسنا جاهزين لتحسّسها في الغرب الرأسمالي كما لو أنها مبتذلة ابتـذالاً بريئًا، أو كما لو أنها سمة أساسيّة للديمقراطيّة المقدّسة".
ومحلّلا المكانة المتميّزة التي تحتلّها الرواية في تاريخ أوروبا الثقافي والفلسفي، كتب ميلان كونديرا يقول: "لقد أفلست أوروبا في أنها لم تعرف أبدا كيف تفكّر في الرواية، الفنّ الأكثر أوروبيّة، كوحدة تاريخيّة. افتحوا أيّ كتاب، أو أيّة أنطولوجيا، وسوف تجدون أن الأدب الكونيّ يعرّف كما لو أنه مجموع الآداب القوميّة، وكتاريخ للآداب جميعها! مع ذلك، ولكي نظلّ في مجال الرواية، كان شتارن قد تأثّر برابليه، وديدرو بشتارن، وغوته بديدرو. فمنذ البداية، كان منطق التطوّر متجاوزًا للحدود الوطنيّة والقوميّة. وقد أكّد ذلك غوته في العديد من المرّات، وبإلحاح: إنّ زمن الآداب القوميّة قد ولّى ليجيء زمن الأدب العالمي. وهذه الفكرة هي جزء من وصيّة غوته. وهي وصيّة تمّ الغدر بها مثل وصايا أخرى. والسبب في ذلك هو أن النقد، وتاريخ الأدب لا يعرفان كيف يخرجان من اختصاصهما الجغرافي. إنّ تحليل رواية مّا في سياقها الوطنيّ هو بالتّأكيد شيء جيّد، ومفيد لكي نفهم الدّور الذي لعبته في تاريخ شعب من الشعوب. غير أن هذا لن يكون كافيًا إذا ما نحن تناولنا هذه الرواية كعمل فنّيّ. لذلك فإنّ السّياق الأوروبي في مثل هذا الجانب مهمّ وأساسيّ.
وهذا السّياق هو الذي يقول لنا لا ما قدّمته الرواية للشعب، وإنما ما قدّمته للفنّ الروائيّ بصفة عامّة، وما هي المظاهر غير المستكشفة للوجود التي تمكّنت من أن تضيئها، وما هي الأشكال الجديدة التي ابتكرتها. وهذا هو معنى فكرة غوته: وحده السّياق العالمي الذي ينتهك حرمة الحدود القوميّة المرسومة هو الذي يكشف القيمة الجماليّة للعمل الفنّي".
وملخصًا رؤيته للرواية، كتب كونديرا، يقول :"أنا أحْذر من كلمات مثل تشاؤم وتفاؤل. الرواية لا تؤكد على أيّ شيء. هي تبحث وتطرح أسئلة. وأنا لا أعرف إن كانت بلادي ستنقرض أم لا. ولا أعرف أيضا أي شخصية من الشخصيات التي ابتكرتها هي على صواب. أنا أبتكر حكايات وأجعلها في مواجهة بعضها البعض. تلك هي طريقتي في طرح الأسئلة. إن حماقة الناس هي أنهم يعتقدون أن لهم أجوبة على كل الأسئلة".