لم يكن كلام الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل نحو شهر، عن الآثار السلبية لمسودة قرار الترويكا الأوروبية الذي تبنته الوكالة الدولة للطاقة الذرية بإدانة أنشطة تخصيب إيرانية مقلقة في ثلاثة مواقع تقع في مريوان وورامين وطورقوزاباد، لم يكن هذا الكلام الإيراني كلاماً عابراً، إذ كشفت الجولة الأخيرة من المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران على مدى أربعة أيام في فيينا، أن المفاوض الإيراني يتمسك بمطلب إعلان الوكالة الدولية إقفال الملف الإيراني بشكل نهائي والعودة إلى المادة التاسعة من اتفاق 2015 باعتباره مطلباً أساسياً يشكل خطاً أحمر بالنسبة إلى النظام، بخاصة ما يتعلق بإعلان سلمية جميع الأنشطة النووية الإيرانية.
إصرار الجانب الإيراني على هذا المطلب، مرده الخوف من أن تلجأ هذه الدول إلى تحريك الوكالة الدولية لفتح ملفات أخرى في المستقبل، وقد تنتهي بإعادة الملف إلى مجلس الأمن الدولي، معتمدة على ما تقدمه إسرائيل "بالتقسيط" من وثائق سرية استطاعت الاستيلاء عليها ونقلها إلى خارج إيران في العملية التي قام بها جهاز "الموساد" في منطقة طورقوزاباد، والتي سبق أن قام بعرض جزء منها رئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحافي كشف فيه عن اسم المسؤول الأول عن البرنامج النووي الجنرال محسن فخري زادة، الذي عادت واغتالته الاستخبارات الإسرائيلية أواخر عام 2020 على أطراف العاصمة الإيرانية طهران.
وعلى الرغم من كلام الوسيط الأوروبي مفوض السياسة الخارجية والأمن جوزيب بوريل ومعاونه إنريكي مورا عن الانتهاء من صياغة مسودة الاتفاق الجديد، إلا أن الطرفين الإيراني والأميركي، تعاملا معه بكثير من الحذر والتشكيك. وفي مقابل السكوت الأميركي الرسمي، فإن الجانب الإيراني اعتبر أن وجود نص نهائي لا يعني القبول به، في ظل بقاء نقاط عدة عالقة ولم يتم حسم الموقف منها واتخاذ قرار حولها سياسياً واقتصادياً.
الجديد في الموقف الإيراني أنه وجد مخرجاً للمطلب الذي يهدد مصير أي تفاهم مع واشنطن، سواء في التوصل إلى صيغة تعيد إحياء الاتفاق القديم، أو في إطار تفاهم جديد، عندما أكد تخليه عن شرط إخراج قوات حرس الثورة عن لائحة العقوبات، باعتبار أن هذا الموضوع لم يكن مطروحاً على طاولة التفاوض ولم يكن من بين شروط المفاوض الإيراني، واستعاض عنه بمطلب إقفال ملف التحقيقات التي تقوم بها الوكالة الدولية بالتزامن مع إصدار مجلس حكام الوكالة قراراً يؤكد سلمية البرنامج النووي وعدم وجود أنشطة عسكرية فيه.
التصلب الأميركي في الامتناع عن تقديم أي ضمانات مكتوبة للجانب الإيراني في ما يتعلق بعدم الانسحاب مستقبلاً من الاتفاق، وأن تكون قادرة على ممارسة أنشطتها الاقتصادية والتجارية بكل حرية، بما في ذلك الحصول على عائداتها المالية من دون أي عوائق، دفع المفاوض الإيراني إلى البحث عن صيغ وحلول تضمن له تحقيق الحد الأدنى من هذه المطالب، التي تعتبر في غالبيتها مطالب قديمة عمل على تحديثها لتنسجم مع التطور الحاصل في المفاوضات.
ففي مقابل عدم استعداد واشنطن لتقديم أي ضمانات حول استمرارية الاتفاق مع أي رئيس جديد، يسعى الجانب الإيراني إلى تثبيت ما حققه من خطوات في أنشطة تخصيب اليورانيوم بالأشهر الأخيرة بالإبقاء عليها مع تعليق عملها وعدم تفكيكها، لتكون ورقة رد سريع على أي إجراء تقوم به أي إدارة أميركية مقبلة.
أما في ما يتعلق بالضمانات الاقتصادية، فإن إيران تسعى إلى الحصول على التزامات سياسية واقتصادية تزيل العراقيل أمام الاستثمارات الأجنبية والتعاملات الاقتصادية والتجارية الإيرانية مع العالم، سواء في قطاع الطاقة أو غيرها، من خلال إعادة إحياء جميع مندرجات اتفاق عام 2015 والتزام ما يتم من تفاهمات جديدة، وإعادة تفعيل رقابة الوكالة الدولية والمفتشين وكاميرات المراقبة، وأن يكون لها الحق في التراجع عن هذه الخطوات في حال أخل أي طرف من الموقعين بالشروط.
ما لا يقوله المفاوض الإيراني، إنه لا يريد أن يذهب إلى تفاهم أو اتفاق قد يفتح الباب مستقبلاً لبحث أي ملفات خارج إطار البرنامج النووي والمسائل المالية والاقتصادية، وإنه لا يترك أي ثغرة قد يستغلها الطرف الأميركي لجر النظام الإيراني إلى مفاوضات حول المسائل السياسية والعسكرية، تحديداً الدور والنفوذ الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، بخاصة أنه يسعى إلى فتح حوارات إقليمية مع دول الجوار العربي وغير العربي تساعده على خفض التوتر وإعادة ترميم علاقاته السياسية والاقتصادية مع هذه الدول، في مسار منفصل عن مسار التفاوض حول الملف النووي، بحيث يخرج ورقة القلق الإقليمي من اليد الأميركية والأوروبية. وقد لا يكون مستبعداً أن تكون طهران، بالتعاون مع موسكو، وجهت رداً حاسماً حول هاتين النقطتين (النفوذ الإقليمي والقدرات العسكرية) على أجنحة الصاروخ الروسي الفضائي الذي حمل القمر الإيراني إلى مدار الأرض، والذي يساعد طهران على امتلاك إشراف ومراقبة فضائية لكل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط.
وقد يكون النظام الإيراني بحاجة ماسة للتوصل إلى صيغة تساعده على الخروج من أزمته الاقتصادية المتفاقمة التي باتت تهدد مصداقية حكومة وإدارة رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي ومستقبله السياسي داخل تركيبة النظام ما بعد المرشد الأعلى، بخاصة أن سياسة تفكيك الآثار السلبية للعقوبات لم تعطِ النتائج المأمولة منها، إضافة إلى فشل جميع الإجراءات الاقتصادية التي قام بها للفصل بين العقوبات الدولية والنهوض بالواقع الاقتصادي والمعيشي المتدهور في الداخل.
بوريل ومساعده مورا يريان الاتفاق قريباً وفي متناول اليد في حال أراد الطرفان ذلك، إلا أن طهران وواشنطن، وإن كانتا تتفقان في الخطوات الشكلية أن هذا الاتفاق قريب، إلا أنهما تتفقان على أنه ما زال بعيداً طالما أن كل طرف متمسك بالشروط التي يريدها، الأمر الذي يضع مصير الاتفاق في دائرة الغموض، ما لم يتوصلا إلى حلول وسط بينهما.