لم يشذ عسكر السودان عن القاعدة. وعدوا في بيانهم الرقم واحد الذي أعلنوا فيه عن تفردهم بالسلطة والانتهاء من حكومة عبدالله حمدوك بإجراء انتخابات عامة صيف العام 2023… تمهيدا لتسليم السلطة إلى المدنيين!
لماذا لا يسلمون السلطة إلى المدنيين الآن ولماذا قرروا التخلّص من المكوّن المدني في السلطة واستبداله بحكومة جديدة لا تضم سوى اختصاصيين؟ لا أجوبة عن مثل هذا النوع من الأسئلة باستثناء أنّ العسكر يريدون السلطة ويريدون حكومة تحت وصايتهم المباشرة ليس إلّا.
هل لدى العسكر في السودان مشروع آخر غير السلطة التي يعشقونها عشق الإخوان المسلمين لها؟ الأهمّ من ذلك كلّه، ما سيطرح نفسه في الأسابيع القليلة المقبلة. سيظهر مدى تأثّر الضباط الذين استولوا على السلطة، وأزاحوا المكوّن المدني منها، بتجربة عمر حسن البشير التي استمرت ثلاثة عقود (1989 – 2019) وأخذت السودان إلى خراب على كل الصعد.
منذ استقلّ السودان في العام 1956، يلجأ المدنيون إلى العسكر في كلّ مرّة يثبت فيها فشلهم في إدارة البلد… ويلجأ العسكر إلى واجهة مدنيّة بين حين وآخر بغية تغطية عجزهم عن ممارسة الحكم
لم يكن لدى البشير من همّ آخر غير السلطة. استطاع التلاعب بزعيم الإخوان حسن الترابي. استخدمه غطاء في مرحلة معيّنة قبل أن يتخلّص منه ويدخله السجن تمهيدا لإعدامه. تدخّل الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، الذي كانت تربطه علاقة قويّة بالبشير، مرتين لإنقاذ الترابي من حبل المشنقة!
بالنسبة إلى البشير، كان كلّ شيء يهون من أجل السلطة. يستطيع أن يكون مع إيران و”حماس” ثم ينقلب عليهما فجأة. كان مع تركيا التي لديها أطماعها المعروفة في السودان وفي البحر الأحمر… وكان ضدّ تركيا في الوقت ذاته. سلّم البشير الإرهابي الفنزويلي الأصل كارلوس إلى فرنسا من أجل استرضاء الغرب بعدما ضاق عليه الخناق. وعندما وجد نفسه محشورا في زاوية، ذهب إلى استفتاء على انفصال الجنوب. أصبح الجنوب السوداني دولة مستقلة في التاسع من تموز – أيلول 2011. خرج من الاستفتاء خاسران، شمال السودان وجنوبه الذي لا يزال يبحث عن استقرار داخلي على الرغم من مرور عشر سنوات على إعلان الاستقلال.
ثمّة عادة متبعة لدى العسكريين الذين ينفذون انقلابات عسكريّة. لا تخلو بياناتهم الأولى من كلّ أنواع الوعود. حتّى الباكستاني ضياء الحق الذي انقلب على ذو الفقار علي بوتو في العام 1977، تمهيدا لشغل موقع رئيس الدولة العام التالي، وعد بانتخابات عامة كي يصلح ما أفسده بوتو. كانت النتيجة أنّ نظامه الذي استمر عشرة أعوام والذي انتهى بمقتله في حادث سقوط طائرة في ظروف غامضة، أسّس لباكستان مختلفة. نقل ضياء الحقّ البلد إلى حال من التزمت الديني قضت على كلّ ما له علاقة بثقافة الحياة في باكستان التي كانت في الأساس بلدا إسلاميا معتدلا تأسّس، على يد محمد علي جناح، من أجل حماية المسلمين في الهند. ما أسسه ضياء الحق أنتج كلّ أنواع المتطرفين، بما في ذلك “طالبان” التي خرجت أصلا من المدارس الدينية الباكستانية وتوجهت منها إلى أفغانستان.
ليس معروفا إلى أين سيأخذ البلد كبار ضباط الجيش السوداني، الذين حسموا أمر نظام حسن البشير. هل لا يزال الزمن يصلح لانقلاب عسكري… أم أنّ السودان يبقى حالة شاذة في ضوء التجارب التي مرّ فيها منذ استقلاله في العام 1956؟
كلّ ما توحي به هذه التجارب أنّ السودان، بأحزابه السياسية المعروفة، تأرجح دائما بين الحكم المدني والحكم العسكري. ليس سرّا أنّ المدنيين بادروا من أنفسهم إلى تسليم السلطة إلى العسكر بعد عامين على الاستقلال. كان ذلك في العام 1958.
منذ استقلّ السودان في العام 1956، يلجأ المدنيون إلى العسكر في كلّ مرّة يثبت فيها فشلهم في إدارة البلد… ويلجأ العسكر إلى واجهة مدنيّة بين حين وآخر بغية تغطية عجزهم عن ممارسة الحكم وإيجاد حلول للأزمات الاقتصادية والسياسيّة المتلاحقة.
في العام 1958 سلّم السياسيون السلطة إلى العسكري إبراهيم عبّود بعد ما اكتشفوا أنّهم غير قادرين على ممارسة مسؤولياتهم. ما لبث عبود نفسه، وكان برتبة فريق، أن وصل إلى طريق مسدود في العام 1964. كان كافيا نزول المواطنين إلى الشارع وإطلاق شعار “إلى الثكنات يا حشرات” كي ينتهي زمن العسكر وكي يعود المدنيون إلى السلطة التي ما لبث أن تسلّمها انقلابي أرعن عديم الثقافة اسمه جعفر النميري. بقي النميري في الرئاسة حتّى العام 1985 قبل أن يضطر إلى التنازل في ضوء ترهّل بلغه السودان على كل صعيد. لم يكن النميري يعرف ما الذي يريده. بدأ عهده بشعارات عروبيّة بالية، من النوع الذي استخدمه قبله جمال عبدالناصر، وانتهى بالبحث عن طريقة يسترضي بها الإخوان المسلمين الذين نخروا المجتمع مستفيدين من حال التسيّب التي سادت في السنوات الأخيرة من حكم النميري ومن الدور التخريبي الذي لعبه الترابي وقتذاك.
لم يكن لدى البشير من همّ آخر غير السلطة. استطاع التلاعب بزعيم الإخوان حسن الترابي. استخدمه غطاء في مرحلة معيّنة قبل أن يتخلّص منه ويدخله السجن تمهيدا لإعدام
بعد فترة قصيرة من الحكم المدني، نفّذ ضباط إسلاميون كان يرعاهم زعيم الإخوان المسلمين الترابي في منتصف العام 1989 انقلابا عسكريا. كان ذلك من منطلق شعار أنّ “الإسلام هو الحلّ”. خرج البشير على طاعة الترابي ومارس حكما عسكريا مباشرا أنهته في العام 2019 ثورة شعبيّة يرفض كبار الضباط الاعتراف بها وبحقها في تشكيل سلطة تكون بالفعل السلطة المسؤولة عن إدارة شؤون السودان وإعادة بناء اقتصاده وإيجاد حلول لمشاكل في غاية التعقيد من نوع مشكلة شرق السودان.
اتخذ السودان منذ إيداع عمر البشير وأركان نظامه السجن خطوات عدة تميّزت بالجرأة، خصوصا في مجال الانفتاح على العالم ودول المنطقة والتخلص من العقوبات التي فرضت على البلد. لكنّ كلّ هذه الخطوات تبدو ناقصة في غياب تفاهم في العمق بين المدنيين والعسكر. تبيّن أن الوصول إلى مثل هذا التفاهم مستحيل…
إذا لم يمتلك العسكر مثل هذه القناعة، التي تفضي إلى وقف الابتزاز للمدنيين والقبول بنوع من توزيع للأدوار في ما بين الجانبين العسكري والمدني، سيبقى السودان في دوامته الأزليّة. تهدّد الدوامة السودانيّة بالمزيد من الأزمات والانقسامات الداخلية التي لن يعثر لها عن حلّ مهما بذل المجتمع الدولي من جهود من أجل مساعدة السودان وتمكينه من استغلال ثرواته الكبيرة.