بمناسبة مرور أربعين يوماً على مقتل المحامي لقمان حميد حنان (45) عاماً نتيجة تعرضه للتعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية في منطقة عفرين صباح يوم الخميس 22/ 12/ 2022 أتذكر احتفاء مجموعة من الناشطين حينها بنشر صورٍ للمدينة الصناعية وسوق الخضرة في ناحية جنديريس، مشيرين في ذيل الصور آنذاك إلى العمار المرتب والأرصفة الجميلة، داعين الأصدقاء إلى الإلتفات إلى هذا الإنجاز الخدمي الذي لم تشهده الناحية لا في زمن سلطة الدولة ولا في زمن سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي، وهذا صحيح من حيث المقارنة بين الخدمات البلدية المقدمة للناس في هذا الإطار، ولكن في النهاية لمن تقدم هذه الخدمات؟ أليس المقصود بها خدمة الإنسان وتوفير سبل الراحة له؟ بينما الإنسان نفسه في تلك المناطق فهو واقعياً مِن أرخص الكائنات الحية.
كما أذكر بأنه أوان تتبعي الأخبار المتعلقة بمقتل المحامي لقمان في المواقع الإلكترونية ومن على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، كان قد أرسل إليّ أحد الاخوة العاملين في المؤسسات الخدمية في المنطقة فيديو لسوق ناحية جنديريس والمدينة الصناعية في البلدة ذاتها؛ وبديهي عندما يُرسل أحدهم إليكَ لقطة فيديو أو صورة لمكان أو لواقعة أو لشخص أو لأي شيء، فالرسالة على أقل تقدير لها غرضين: فالغرض الأول هو أن تشاركه الحزن أو الفرح أو الحالة التي يشعر بها بخصوص تلك اللقطة، والغرض الثاني هو أن تعمل على تعميمها أو الترويج للمقطع لدى الأصدقاء والمعارف؛ ولكن بما أن المرء لديه ذاكرة لذلك فإنه بالرغم من أن المشهد المرسل قد يكون فيه شيء مبهر إلاّ أن المستقبِل لا يُظهر تفاعله مع ذلك المشهد بسهولة بما أن ذاكرته محمولة مِن قبل بالكثير من المقاطع التي لا تسر ولا تدعو للفرح، لذا عوضاً عن الانسجام ينتابه شيء من التشاؤل وفق الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي.
ولا شك بأننا لا نُحمِّل الأخ المُرسل تبعات كل المقابح والمثالب والانتهاكات التي حصلت في المنطقة منذ الشهر الثالث من عام 2018 ولكن يبقى السؤال الجوهري لدى كل من يمتلك البصيرة، ألا وهو: أليست الجهة المسؤولة عن الانشاءات الجديدة في المنطقة هي نفسها المسؤولة عن أمن المنطقة وسلامة أهلها، فلماذا لا تلتفت إلى الجانب القضائي والقانوني والمؤسساتي إلى جانب اهتمامها بالمؤسسات الخدمية؟ ولماذا لا تركز على الأمان والسلام مثل تركيزها على الأرصفة والطرقات؟ فقد يقول قائل لماذا لا تركزون على الايجابيات ولا تضعون السلبيات جانباً؟ فنقول لهم ماذا لو كانت المقابح أكثر من المثالب هل وقتها علينا تناسي بيدر المثالب ونحتفي بالاكسسوارات المكانية على حساب بدن الكائن البشري؟ ثم مَن قال بأن حياة الإنسان وكرامته دون مستوى الأرصفة والشوارع المعمولة أصلاً للأوادم؟
ماذا عن مصير الإنسان ـ الفرد المدني الأعزل ـ الذي سيستفيد من تلك الخدمات فهل من حماية قانونية أو أمنية له؟ هل تفكر الجهات التي تقدم مشاريعها الخدماتية بإراحة الإنسان نفسه وتفكر بتحسين وضعه من جهة الحرية الشخصية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية؟ ويا ترى مَن الذي بمقدوره توفير سبل الراحة النفسية للمواطن الذي يعيش تحت رحمة مافيات مسلحة قادرة في أية لحظة على الانقضاض على المواطن وسلبه كل ما يملك، وقادرة بنفس الوقت على حجز حريته الشخصية لأتفه سبب، أليس العمل على توفير بيئة آمنة للبشر وحفظ كرامة الفرد والعائلة أهم من العمران؟
وما الهدف من وراء التركيز على البناء والعمران دون البشر؟ هل الغاية هي فقط ترك بصمة عمرانية تدل على مَن كان يحكم هذا المكان كما فعلت الدول الغربية في مستعمراتها؟ أم الهدف هو جعل ابن اليوم المتمتع بتلك الخدمات في حِلٍ من كل ما جرى لأهله وناسه وأبناء منطقته، وبالتالي قولبة وعيه من جديد وفق مقتضيات الحاكمية الجديدة التي تعمل من خلال التركيز على تزيين المكان بالاكسسوارات على طي ما جرى سابقاً بحق الإنسان في هذه الديار من قِبل الأدوات العسكرية والأمنية؟
وبما أن الجهة التي تدير حالياً تلك المناطق توجهها ديني إسلامي أليس من المفروض على قيادتها الإدراك بأن القرآن الكريم فضّل الإنسان على سائر المخلوقات، أي أن الشوارع والأرصفة والأسواق والمشافي كلها من أجل الإنسان وراحته وسعادته وليس بأن يكون الإنسان وحريته وكرامته وحياته في آخر سلم اهتمامات الذي يدير المنطقة، ومن باب التذكير فبخصوص تفضيل الإنسان على المكان قال تعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} حيث كرم القرآن الإنسان وأعطاه المكانة التي تليق به، وحيث أن تفضيله على الكثير من المخلوقات ظاهرة متميّزة في الآيات البينات، كما أن الخطاب في تلك الآيات كان للناس جميعاً بدون تمييز بين جنسهم ولونهم ولغتهم ووضعهم الاجتماعي، ولم يأتِ في القرآن بأن الأمني الجلف أو العسكري الغليظ أو العوايني السمج مفضّل على المدنيين العزل!
وربما يخطر على بال أحدهم السؤال لماذا يا ترى تأخرت في الكتابة عن الجريمة؟ أقول إن السيء في كثافة الأخبار المنتشرة عن موضوع معين في وسائل التواصل الاجتماعي في فترة زمنية محددة أنها أشبه باشتعال لحى وقشور الأشجار وأوراقها، فهي بالرغم من كثافتها في فترة زمنية معينة إلاّ أن اشتعالها لا يدوم طويلاً، لأنه سرعان ما يتصدر خبر آخر مكانه ويزيح الخبر الذي سبقه، وفي هذه الحالة لا يجد المُنتَج الخبري ولا حتى الرأي فرصته أو طريقه للدخول إلى عقل ووجدان القارئ، لأن الاهتمام وقتها كما لهيب القشور عادةً ما يكون سطحياً ولا يمتد إلى الجذوع والقروم، لهذا السبب لم أكتب عن المحامي المقتول في ذلك الحين لأن الهدف من الكتابة ترك أثر في وجدان المتلقي أو ترك ولو شيء صغير جداً في جدران ذاكرة القارئ، وليس المضي مع الموجات السريعة التي عادةً ما تتلاشى في طريقها أو تصطدم بصخرةٍ واقعية ما فينتهي مفعولها.
وطالما أن الجهة صاحبة المشاريع في تلك الديار قادرة على إنجاز هكذا مشاريع خدمية بسرعة قياسية فهي إذن لو رغبت ليست بعاجزة عن تطبيق القانون وحفظ كرامة الناس وصون حريتهم وأمنهم الشخصي، ولكنها وفق شهادات العشرات من أبناء المنطقة ما تزال تسمح باستمرار الفوضى وتترك الأوباش تتحكم بالناس وتضع القانون بعيد عن الحياة المدنية لأهالي المنطقة ليكونوا عبارة عن كُراة بشرية تتقاذفها أقدام بعض أمراء الحرب وجلاوزتهم، خصوصاً إذا ما عرف المرء بأن الجهة الراعية لتلك المشاريع الخدمية هي نفسها التي أمعنت في إذلال الأهالي من خلال إفلات الأوباش عليهم، وهي نفسها التي جعلت المواطن أشبه بالملطشة والأجير لدى مجموعة من منتهكي الحُرمات، وهي نفسها التي تُحاسِب ابن المنطقة بأسخف التُّهم ليل نهار، بينما مَن نهب وسلب واغتصب جعلته سيداً وقائداً وحاكماً على أهل المنطقة!