وسط الرمال المتحركة والحرائق المشتعلة في منطقة عربية مضطربة، يقف العراق على مفترق طرق مليء بالتحديات. وتتنافس العوامل الداخلية والخارجية على الهيمنة على المشهد، مما يزيد من التعقيد الذي يواجهه مسار الأمة إلى الأمام.
ويتجلى هذا التعقيد بشكل خاص في الشبكة المتشابكة من تقاطع الاقتصاد السياسي مع الاعتبارات الأمنية، في مواجهة مجموعات الميليشيات الموازية للدولة.
فبعد مرور أكثر من عقدين من الغزو الأمريكي، تضاءلت كل الآمال في دولة عراقية مستقرة ومزدهرة بسبب تقاطع الاقتصاد السياسي بعد الحرب مع الأمن. إن اعتماد البلاد الكبير على عائدات النفط يجعلها عرضة لتقلبات السوق العالمية ويحد من تنوعها الاقتصادي.
وتخلق هذه الهشاشة الاقتصادية، إلى جانب القطاع العام المتضخم ونقص فرص العمل، أرضاً خصبة لتجنيد الميليشيات. علاوة على ذلك، فإن الخط الغامض بين قوات الحشد الشعبي والمقاومة الإسلامية في العراق هو مجرد مثال بارز على التداخل بين المجالين السياسي والأمني، والتحدي المستمر المتمثل في احتكار الدولة للعنف.
وعلى وجه الخصوص، يمثل تحول قوات الحشد الشعبي من كيان عسكري مناهض إلى حد كبير لتنظيم داعش إلى جهة فاعلة سياسية تكيفًا متطورًا لهذه الجماعات مع البنية السياسية الفريدة للعراق. وتعمل هذه الميليشيات، وبعضها متحالف مع إيران، ضمن إطار قوات الحشد الشعبي ولكنها تحافظ أيضًا على مستوى من الاستقلال. إن الخطوط غير الواضحة بين الولاء الوطني والولاءات الطائفية والنفوذ الأجنبي داخل هذه الجماعات تزيد من تعقيد أمن العراق الداخلي وعلاقاته الدولية.
ويُزعم أن بعض عناصرهم متورطون في التخطيط لهجمات على مستشارين دوليين، مما أدى إلى غارات جوية متعددة في أبو غريب وجرف الصخر، والتي أدت إلى مقتل عدد من أعضاء من ميليشيا حركة حزب الله المدعومة من إيران. تكشف هذه الحوادث حقيقة كيفية مناورة هذه الجماعات المتاخمة للدولة، مستغلة في بعض الأحيان غموض وضعها، سواء كامتداد للدولة أو كفاعلين مستقلين، للهروب من العواقب، مع إبقاء قيادة الدولة العراقية تحت رحمة أفعالها غير المتوقعة.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن التغاضي عن النفوذ الإيراني المنتشر في العراق. إن التحديات الاقتصادية المتشابكة والمشهد الأمني المعقد يشجعان طهران على زيادة حزمها، والتي وسعت موطئ قدمها بشكل ملحوظ من خلال تعزيز التحالفات مع الميليشيات الشيعية، مما يترك آثارا عميقة على سيادة العراق وتوجه سياسته الخارجية.
وعلى رأس السلطة، يواجه رئيس الوزراء محمد السوداني مهمة شاقة تتمثل في إدارة هذه الديناميكيات المضطربة. ويجب عليه التوفيق بين الاحتياجات الاقتصادية للدولة، والقوة العسكرية للمنظمات المتحالفة مع الدولة، والسيادة الهشة - كل ذلك أثناء محاولته توجيه العراق بعيدًا عن أن يصبح مسرحًا بالوكالة للاحتكاكات الإيرانية الأمريكية.
لقد كانت فترة ولاية السوداني رمزاً لمحاولة تفعيل التوازن في زوبعة. وكانت محاولاته لتعزيز قدرات قوات أمن الدولة والحد من صلاحيات الميليشيات جديرة بالثناء، على الرغم من أنها تعرقلت بسبب الهياكل المتاخمة للدولة والتدخلات الإقليمية. وتسلط الهجمات المكثفة ضد الأفراد العسكريين والمدنيين التابعين للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الضوء على المعضلة الكبرى التي تواجه إدارته - وهي إدارة السلام الداخلي والذي يتصارع مع المصالح الذاتية للقوى الأجنبية.
لكن التغييرات مستمرة خارج حدود العراق. لقد أضافت الحرب على غزة والتصعيد الموازي في البحر الأحمر طبقة جديدة لهذه الديناميكية الإقليمية المثيرة. وعلى الرغم من بعدها عن جوار العراق المباشر، إلا أن موجات عدم الاستقرار الناجمة عن هذه الأحداث تؤدي إلى تعقيد ظروف العراق والملاحة الدبلوماسية الإقليمية.
إن الوضع الذي يواجهه العراق يرمز إلى الصراعات السياسية والجيوسياسية داخل منطقة الشرق الأوسط الكبير، حيث تتلاقى السياسات الداخلية، وتلعب القوى الإقليمية، والجغرافيا السياسية الدولية. وبالتالي فإن العراق محاصر في مرمى النيران الجيوسياسية، مما يجبر بغداد على التنقل في مجال جيوسياسي قزحي الألوان حيث تتغير التحالفات بشكل غير متوقع وتتأرجح موازين القوى بشكل غير مستقر.
إن التقاطع بين السياسة والأمن والاقتصاد في العراق يعكس هذا المشهد المعقد، والذي من المرجح أن يترسخ على مدى السنوات المقبلة كعرض من أعراض عالمنا الذي يعاني من الفوضى على نحو متزايد. ويتعين على رئيس الوزراء العراقي الآن أن يبحر في مشهد معقد ومتقلب ومليء بالخلافات الداخلية والتدخلات الأجنبية والطموحات السامية لتحويل العراق إلى رابطة إقليمية. ولكي يحكم بشكل فعال في ظل هذه الظروف، فإنه يحتاج إلى تنفيذ استراتيجية ثلاثية المحاور.
أولاً، يجب عليه التخفيف من حدة الصراع الداخلي من خلال تعزيز نهج قائم على الإجماع، وإعطاء الأولوية للمصالح الوطنية المشتركة على المكاسب الطائفية. ومن خلال استغلال إمكانات العراق باعتباره بوتقة تنصهر فيها المجموعات العرقية والدينية المختلفة، يتعين عليه أن يعمل على تعزيز بيئة من الشمولية والاحترام المتبادل.
ثانياً، يتعين على السوداني أن يعمل على تخفيف التعديات الأجنبية من خلال التأكيد على سيادة العراق. ويشمل ذلك الحفاظ على توازن دقيق بين الالتزام بالمعايير العالمية وإعطاء الأولوية للمصالح الوطنية؛ عمل دبلوماسي بارع، إذا تم تنفيذه بشكل صحيح، يمكن أن يمنع النفوذ الأجنبي مع الحفاظ على العلاقات المفيدة.
وأخيراً، يجب على رئيس الوزراء أن يدرك تطلعات العراق في أن يصبح "جسراً" إقليمياً من خلال الوساطة وتسهيل الحوار بين القوى المتعارضة. ومن الممكن أن يساعد هذا الموقع الجيوسياسي الفريد في حل النزاعات الإقليمية وتعزيز الاستقرار.
ويمكن للمجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تعزيز جهود السوداني من خلال الدعم الشامل. ومن الممكن أن يلعب الجمع بين المشورة الاستراتيجية، والمساعدات المستهدفة، والدعم الدبلوماسي، دوراً حاسماً. إن التركيز على تطوير البنية التحتية والمؤسسات سيساعد العراق على تحقيق الاستقرار على المدى الطويل، والذي يمكن أن يساهم في تعزيز الوئام الإقليمي في الأوقات المضطربة باستمرار. علاوة على ذلك، فإن الاعتراف الدبلوماسي بدور العراق في الوساطة يمكن أن يسلط الضوء عالمياً على جهود صنع السلام في البلاد، واستكمال جهود السوداني لتطوير موقف العراق كوسيط في جزء مشتعل بشكل دائم من العالم.
وباختصار، فإن القيادة الفعالة لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني في مواجهة هذه التحديات التي لا تعد ولا تحصى هي دليل على فطنته السياسية. فهو يوفر للمجتمع الدولي طريقاً لاستكمال قيادته، من خلال تسهيل طموحات بغداد الشاملة، مع الحذر من عدم خنق جهوده عن غير قصد من خلال التدخل المفرط.
* للاطلاع على المقال الأصل باللغة الانكليزية في Arabnews على الرابط التالي:
Iraq is at a crossroads — with Al-Sudani fighting a lone battle